أدب وفنون

جامعة إسبانية تقدم للسوريين منحًا لدراسة الإخراج السينمائي

خرج السوري من بلاده مرغمًا مقهورًا، كما تخرج الروح من جسدها الوحيد. خرج وفي حقيبته الصغيرة صورًا لكثيرين تركهم خلفه؛ إما تحت التراب أو في غياهب السجون أو مفقودين أو عاجزين عن الخروج. خرج وأحلامه التي تكسرت كانت محشوةً مع بقايا ملابس ووثائق دراسية وبعض قطع صغيرة من الأمل، كان قد ورثها عن جده العجوز الذي قال له: اذهب فالحياة دائمًا هي الأقوى.

وهنا في إسبانيا، كانت أحلام الشاب السوري اللاجئ، القادم من بلاد تأكلها الحرب العمياء، ويأكلها صمت هذا العالم. كانت أحلامه بمتابعة دراسته الجامعية في بلد أوروبي، أحلامًا مقصوصة الأجنحة وشبه مستحيلة، وذلك لأن رسوم الدخول للجامعات في إسبانيا، مكلفة جدًا على السوري الذي يأخذ المساعدات البسيطة جدًا، لمدة سنة -فقط- من تاريخ لجوئه، ويضطر للعمل، في أي وضع كان، كي يستطيع إكمال حياته. وهذا الوضع مختلف عن الأوضاع الخاصة باللاجئين السوريين الموجودين في باقي الدول الأوروبية، مثل ألمانيا والسويد وهولندا والدانمارك، إذ إن إسبانيا بلد يعاني من أزمة اقتصادية شديدة، منذ أكثر من عشر سنوات، أدت إلى ارتفاع كبير في نسبة البطالة فيها، وهذا ما يجعلها أقل الدول الأوروبية قدرة على تقديم مساعدات للاجئين فيها، لذا؛ فإن دراسة الطلاب اللاجيئن هنا تعدّ مشكلةً مهمةً جدًا. وقد حاولت المنظمات الإنسانية الداعمة للاجئين في إسبانيا طرح هذه المشكلة في الصحافة وفي كل منابرها الممكنة، لعلها تستطيع أن تساعد هؤلاء الطلاب في إكمال حياتهم طبيعيًا، مثلما يستحقون، ومن ضمن هذه المنظمات كانت منظمة “أكنور” التي تهتم وتعنى بشؤؤون اللاجئين، وتحاول طرح هذه المشكلة على الجامعات الإسبانية، مدعومة بمنظمات أخرى مثل منظمة “ثيار” ومنظمة “أكثم” ومنظمة الصليب الأحمر الإسبانية، وقد أثمرت هذه المحاولات -للمرة الأولى- في موافقة جامعة إسبانية عريقة خاصة هي جامعة “كاميلو خوسيه ثيلا” في مدريد على تقديم منحة دراسية كاملة لمدة خمس سنوات، لعشرة طلاب لاجئين، ممن يحملون شهادات البكالوريا الإسبانية، أو الشهادات المرفقة معهم من بلادهم والمعدلة في إسبانيا.

تتضمن هذه المنحة دفع رسوم الجامعة إضافة إلى تقديم سكن في حرم الجامعة نفسه، مع ثلاث وجبات جيدة، وملاعب لكرة السلة والتنس، وصالات سينما ومسرح، ومكتبة للدراسة، وتدريب على ركوب الخيل، إضافة إلى تقديم المساعدة الكاملة، لكل مستلزمات الدراسة الجامعية، من حواسيب وقرطاسية وكاميرات، لإعداد مشروعات الأفلام التي سوف تقدَّم للجامعة من الطلاب، في سنوات دراستهم الخمس فيها.

وقد دعت إدارة الجامعة عددًا من المخرجين السينمائيين الإسبان الذين دعموا هذه المنحة، وجميع الصحافيين والوسائل الإعلامية الموجودة في مدريد، وجميع مندوبي المنظمات المدنية، وكذلك أهالي الطلاب الحاصلين على المنح، إلى حفلة أقامتها في مناسبة دخول هؤلاء الطلاب إلى الجامعة، وتسلمهم المنحة. وقد أطلقت إدارة الجامعة على الحفلة اسم “حفلة دخول دم جديد إلى الجامعة”.

في هذه الاحتفالية قدمت رئيسة الجامعة، الدكتورة مارتا سيغوبيا، الطلاب الجدد، وقد قالت في حوار معها أن جامعتها “تشعر بالفخر الشديد؛ لأنها قامت بهذه الخطوة التي قد تساعد بعض الشباب الجيدين في المضي نحو مستقبلهم أكاديميًا”، وأنها ترى أن “على كل جامعات مدريد تقديم هذه المنح لطلاب أجبرتهم الحروب في بلادهم على الخروج منها”، وأضافت أنها تشعر أن “حياةً جديدةً ستدخل إلى هذه الجامعة بسبب وجود هؤلاء الطلاب” وأن “من بين الطلاب اللاجئين العشرة الحاصلين على منح الجامعة، هناك خمسة سوريين وعراقيان”، وأنها تعتز بما ستضيفه الثقافة العربية التي يحملونها لدراستهم الأكاديمية هنا، ولهذا البلد مستقبلًا، وبخاصة ما يخص الإخراج السينمائي الذي يعد اختصاصًا مهمًا جدًا، يستطيع الخريج أن “يعيد إنتاج الحياة مع مفهومات كاملة جديدة يحتاجها الإنسان الأوروبي عمومًا، والإسباني خاصة”، وأنها تحترم جدًا شخصياتهم التي “تتسم بالأخلاق والثقافة والجدية”.

أما السيدة ليري شانسا، المسؤولة في منظمة أكنور، فقد أجابت عن سؤال حول رأيها في تقديم هذه المنحة لهؤلاء الطلاب اللاجئين: “أنا سعيدة جدًا بأنهم استطاعوا -أخيرًا- أن يقدموا للاجئين شيئًا جيدًا في بلد مثل إسبانيا التي تُعدّ بلدًا أوربيًا عريقًا، وعليها أن تقدم للاجئين ما هو أفضل بكثير مما تقدمه الآن. فاللاجئ لا يقل عنا تحضرًا أو تطورًا أو إنسانيةً، بل على العكس هو إنسان مميز، لأن الحرب فرضت عليه ترك حياته الطبيعية وراءه، وترك جزءًا من أهله وترك ذكرياته كلها وشخصيته القديمة، التي تعب جدًا حتى بناها هناك في بلده. إن الخروج من بلدك وأنت مرغم على ذلك ولا وقت لك لتفعل شيئًا، هو بالنسبة لي مثل قلع شجرة حتى بدون جذورها ثم زرعها في أرض جديدة ومناخ جديد مختلف بالكامل، والطلب منها أن تورق وتزهر وتثمر حتى بدون سقايتها على الأقل. إن اللاجئين الذي فرضت الحرب عليهم القدوم إلى بلد جديد لا يعرفون فيه أحدًا، والتعامل مع لغة جديدة صعبة جدًا، وهي لغة مختلفة تمامًا عن الإنكليزية التي يتقنها معظمهم، هم أبطال حقيقيون؛ لأنهم استطاعوا تحمّل كل هذا وما زالوا يقاومون. أنا لا أتخيل أنني أستطيع ذلك، وأعتقد أن إسبانيا -بالذات- قد عانت منذ فترة ليست ببعيدة من الحرب الأهلية القاتلة، وعرفت تمامًا معناها، ولجأ العدد الكبير من الإسبان إلى دول مجاورة، لذا؛ عليها أن تعرف ما يعانيه هذا القادم إلينا الآن”. وأضافت: “أنا سعيدة لهؤلاء الطلاب، ولقد التيقت بهم جميعًا، وهم طلاب في غاية الاحترام. وقد أذهلتني معرفتهم وثقافتهم وقدرتهم الرائعة على تعلم اللغة، وعلى الحديث بالإنكليزية أيضًا، وهي التي لا يتقنها كثير من الإسبان أنفسهم”.

قدم الطالب الأفغاني اللاجئ “مهاتي محمد” مع الطالبة اللاجئة السورية “وفاء الشامي” كلمة الطلاب الحاصلين على المنحة. وقد قالت الشامي في كلمتها الجميلة أنهم يشعرون أن الحياة أعطتهم فرصة ثانية للنهوض، بعد كل هذا الدمار الذي حصل في بلادهم، وفي أرواحهم، وأنهم شاكرون جدًا لهذه الجامعة المحترمة، وسيعملون على تقديم صورة جيدة جدًا عن اللاجئ الإنسان الذي هرب من الموت، ولم يرد أن يشارك في صنعه، اللاجئ الذي هرب إلى الحياة والذي سيصنع في الفيلم السينمائي حياة جديدة”.

كما عبرت الشامي عن أمنيات الطلاب اللاجئين بأن تقوم كل جامعات مدريد بتحويل التعليم الجامعي للطلاب اللاجئين إلى تعليم مجاني، كي يستطيع اللاجئ -هنا- إكمال تعليمه الأكاديمي، لأن اللاجئ -عمومًا- لديه رغبة كبيرة جدًا بتحقيق نفسه، ولديه كثير من الحماسة في أن يتحول إلى شخص إيجابي ومنتج وفاعل في هذا المجتمع الجديد.

أما أحمد الشامي، السوري القادم من منطقة ريف دمشق، والحاصل على منحة دراسة الإخراج السينمائي، فقد قال: “أنا ابن دمشق، أقدم وأعرق مدينة في العالم، عشت فيها وأحس أنني أحملها في دمي أينما رحلت. كانت لي أحلام كبيرة عندما كنت في بلدي، لكن هذا النظام المجرم، وهذا العالم الذي يصمت عن إجرامه، قتل أحلامي كلها، مثلما قتل أفضل الشبان وأجمل أصدقائي. جئت إلى هنا؛ كي لا أكون قاتلًا أو قتيلًا، وهنا كان على معاناة جديدة أن تبدأ، بعد معرفتي لوضع الدراسة الجامعية وتكلفتها. كنت أعتقد أن فرصتي في إكمال الجامعة هنا في إسبانيا قد انتهت، لكن هذه الفرصة أعادت إلي الأمل من جديد. كنت قد بدأت بدراسة الأدب الإنكليزي في كلية الآداب في جامعة دمشق، واضطررت لتركها بسرعة، حين كان عليّ أنا ووالدتي أن نغادر البلد. كان النظام يحاصر الجميع، ويحاول منعهم من السفر؛ كي يدخلهم في الجيش، فلم تقبل شؤون الطلاب في الجامعة أن تعطيني كشف علامات يدل على أنني كنت طالبًا في السنة الثانية من قسم الأدب الإنكليزي. قتل النظام أغلى شخص على روحي؛ لأنه كان يمتلك رأيًا حرًا فحسب، لذا؛ كان يجب أن نخرج أنا وعائلتي من سورية. هنا تعلمت الإسبانية وأتقنتها، وعدات شهادة البكالوريا، وقد عملت لمدة سنة كاملة مترجمُا من اللغة العربية إلى الإسبانية في شركة إسبانية لصنع الأفلام الوثائقية، وهذا ما أكسبني بعض الخبرة، وما جعلني راغبًا جدًا في دراسة الإخراج السينمائي. إن هذه الفرصة الآن هي فرصة رائعة للبدء من جديد. سوف أدرس فن الإخراج السينمائي كما أحب، وأعتقد أنني سأقدم أفلامًا تحاكي حقيقتنا، وبجودة ستعلمني إياها الدراسة في بلد متقدم في صناعة السينما كإسبانيا”.

مقالات ذات صلة

إغلاق