مقالات الرأي

مصير مسيحيي الشرق الأوسط في ظل المشروع الإيراني

في ظل تزايد النفوذ الإيراني في كل من سورية والعراق ولبنان، ليس على الصعيد السياسي فحسب، وإنما على الصعيد العسكري الميداني أيضًا، فقد أصبح من المشروع أن نتساءل عن مصير مسيحيي الشرق الأوسط من جميع القوميات، وبالأخص منهم حاملي الثقافة العربية، في ظل هذا الاحتلال المتفشي في أرضهم، والمتمثل بميليشيات إيران التي تتحرك عسكريًا مدفوعة بعاملين: البعد المذهبي الطائفي، والبعد القومي الفارسي؛ فما مستقبل مسيحيي الشرق في ظل هذا الاحتلال؟

تتطلب مناقشة الأمر –بداية- أخذ العلم بأوضاع المسيحيين في “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، وهم حوالي ثمانمئة ألف شخص، فهي دولة مصنفة في المرتبة الثامنة، من بين خمسين دولة يعاني فيها المسيحيون من الاضطهاد، وفق المؤشر العالمي لاضطهاد المسيحيين لعام 2017، وهو مؤشر يشمل رصد هذه الظاهرة في المدة الزمنية الواقعة بين تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2015، إلى تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2016، تطال هذه الانتهاكات، بحسب هذا التقرير، الحياة الخاصة العائلية، والحياة العامة الاجتماعية والمدنية، والحياة الدينية الكنسية.

إذ لوحظ ازدياد حالات سَجن المسيحيين بسبب ارتيادهم أماكن غير مرخصة رسميًا للصلاة، وتزايد الممارسات المضيّقة على حياتهم، وتدفع بهم إلى الهجرة نحو الغرب. علمًا أن إيران كانت في المرتبة التاسعة في النسخة السابقة من التقرير، وتقدمت إلى المرتبة الثامنة أخيرًا، في دليل على ازدياد اضطهاد المسيحيين الإيرانيين على أراضيها.

فإذا كان هذا حال التنوع المذهبي في إيران مع مواطنيها. فعلينا توقع مزيد من الانتهاكات تجاه هذا المكون في الأراضي التي تُحتل تدرّجًا منها، وهي مناطق تضم تنوعًا مذهبيًا وقوميًا مهددًا بالاندثار، والتحول نحو دويلات منغلقة طائفيًا وقوميًا. وهو ما تدفع باتجاهه الميليشيات الإيرانية الموجودة في كل من سورية ولبنان والعراق؛ إذ يصب هذا التفتت -حتمًا- في مصلحة الحكومة “الإسلامية” الإيرانية في سياق سعيها إلى التوسع الأيديولوجي الطائفي، من جهة، وضمن صراعها التاريخي ضد العرب، من جهة أخرى، ومن ضمنهم المسيحيون العرب.

فوجود إيران في هذه المناطق بات قوة عسكرية مسلحة، وتأثيرها سياسي متنامي النفوذ في كل من العراق وسورية، أما في لبنان فعلى الرغم من التوجهات الظاهرية الحالية لـ “حزب الله” الطائفي في محاولاته لكسب تأييد المسيحيين، لكن علينا ألا نسمح لذلك بأن يعمي الأبصار عن أن مشروعه الرئيس، ومشروع جميع التيارات التابعة لإيران في المنطقة، هو مشروع إقامة الدولة “الإسلامية” التابعة لحكم الولي الفقيه.

فما السيناريوهات الممكنة لمسيحيي الشرق الأوسط في ظل هذه التبعية، وهل يمتلكون خيارات أفضل من تلك المفروضة عليهم، في حال إقامة دولة “إسلامية” تتبع شرائع داعش؟ الجواب البديهي هو: لا، فكلا التوجهين يحملان فكرًا متطرفًا ساعيًا إلى إلغاء وجود الآخر، وعدم احترام معتقداته وتقاليده، والأهم من ذلك كله، هو استمرار وضع المسيحيين تحت وصاية ما. في مرتبة الدرجة الثانية في المواطنة والحقوق.

يُترجَم ذلك على أرض الواقع باستمرار التهجير المباشر وغير المباشر للمسيحيين من منطقة الشرق الأوسط، وإفراغها فعليًا بتواتر متسارع. إذ تبلغ آخر التقديرات لعدد المسيحيين في مجمل سورية والعراق ما يقارب مليون شخص فقط، يقيمون في مناطق تقع تحت تأثير مباشر للميليشيات الإيرانية، سياسيًا وعسكريًا، مهددين من جراء المطامع التوسعية الإيرانية. إضافة إلى ما يقارب مليون وستمئة ألف شخص في لبنان، أي: في المجمل نحو مليونين وستمئة ألف مسيحي من قوميات مختلفة في هذه المنطقة الجغرافية.

وكمثال حي على ما سبق، فالتغيير الديمغرافي الحالي الذي يجري في دمشق خصيصًا، يطال بشكل كبير مناطق تقطنها أغلبية مسيحية، لا تشكل خطرًا يذكر على النظام، لكن الدفع بسكانها نحو الهجرة مستمر، على الرغم من ذلك، وأهم شاهد هي أحياء دمشق القديمة التي تترافق الرغبة الحثيثة باستملاكها من اتباع إيران، برمزية تاريخية دينية واستمرارية لصراع حضاري.

على واقع هذه المعطيات؛ فان الوجود المسيحي في الشرق الأوسط يزداد هشاشة، ولم تنفع أي من ادعاءات حمايته والمحافظة عليه في تغيير هذا الواقع، فيجب -إذن- على المساعي الجدية الساعية لبقاء هذا المكون أن تحدّ من تفشي الاحتلال الإيراني في هذه البلدان، وتلجم العنف والسلاح والتطرف المرافق له، أولًا، ثم تدعم تأسيس نظم حديثة، تضع الأولوية للمواطنة الكاملة في هذه البلدان.

إضافة إلى أنه من المنتظر أن يعمل هذا الخطر الخارجي المتفاقم، عاملَ استنهاض وطني داخلي، يجمع أبناء البلدان المهددة في خط دفاع واحد عن أرضهم ومستقبلهم ويكون دافعًا لنبذ التخندق الطائفي مع كل ما أتى به من دمار وتفكك، ويقودنا نحو التمسك بحقوق المواطنة التي فقدت منذ أن جُعلت يد الاستبداد هي العليا في المنطقة، فالمواطنة هي الرابط الأساس الذي يجمعنا، وغيابها يفرقنا، وليس ذلك فحسب، بل يفتح الباب واسعًا للاحتلال والتبعية والاندثار التدريجي لهوية التنوع في الشرق الأوسط، وهي مصدر غناه وتحضّره.

مقالات ذات صلة

إغلاق