أصبحت صورة الشابة الأميركية الجنسية، بنغالية الأصل، منيرة أحمد، التي ارتدت العلم الأميركي حجابًا، وهي الصورة التي تحولت إلى رمز لإحدى التظاهرات النسائية التي خرجت في واشنطن ضد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب؛ أصبحت تلك الصورة أيقونة للمعارضة الأميركية، بعد أن حوّلها الفنان الأميركي، سيبارد فيري، ملصقًا على لافتة، سار خلفها الآلاف في تظاهرة جرت أخيرًا؛ للتنديد بالرئيس الجديد.
الشرطة الأميركية لم تطلق النار على منيرة، كذلك لم تجر أي عملية اعتقال في صفوف المتظاهرين الأميركيين، ليس بسبب الشعار الرئيس، وهو “نحن الشعب” فحسب، ولم يكمل أنه يريد إسقاط النظام، أو يريد إسقاط الرئيس ترمب، وليس أيضًا بسبب عدم وجود “مندسين” في التظاهرة، على الرغم من أن فكرة المندسين تعود براءة اختراعها إلى الشرطة الأميركية، التي دست بقوة مال صاحب العمل، أحد عناصرها في إضراب عمالي في شيكاغو عام 1886، وأطلق قنبلة باتجاه عناصر الشرطة، كانت مبررًا لهم لأن يفتحوا النار على العمال، ويفضوا الإضراب.
ربما كانت الشرطة الأميركية مطمئنة إلى أن تلك التظاهرة لن تستطيع تغيير نتائج الانتخابات التي حملت ترمب إلى البيت الأبيض، ولن تخرج عن إطار حرية التعبير، ومن ثَمّ؛ لم يقم الرئيس الأميركي بتدمير الحي الذي تسكنه منيرة الأحمد، ولا أحياء المسلمين في نيويورك، واتهامهم بالتعاطف مع منفذي أحداث أيلول أو بالإرهاب، وهذه التظاهرة سارت على أثرها عشرات التظاهرات في أماكن مختلفة من الولايات المتحدة، تندد بعنصرية ترمب، ومن بينها إجراءاته التي تمنع دخول اللاجئين من سبع دول، من بينها سورية، إلى بلاده.
هذا الاطمئنان البوليسي، لم يكن على سبيل المقاربة، متوفرًا عند “الشرطة السورية” إن صح تسميتها بهذا الاسم، حين هاجمت تظاهرة نظمها مثقفون في منطقة الميدان من دمشق في تموز عام 2011، حملت أقلامًا فحسب، وأطلقت شعارات تنادي بالحرية، واعتُقلت فيها الفنانة مي سكاف. والتظاهرة واحدة من بين آلاف التظاهرات السلمية، التي استمرت في مدى أشهر طويلة، وجرى بعدها، وفي مدى سنوات، تدمير بيوت غالبية السوريين على رؤوس ساكنيها، بعد اتهامهم بأنهم إرهابيون.
كرامة الإنسان هي التقاطع القيمي بين المتظاهرين في كل من حي جامايكا وحي الميدان، فلم تخرج التظاهرتان من أجل رفع مستوى الدخل؛ وإنما من أجل الدفاع عن إنسانية المواطن المنتهكة بدافع المال والاقتصاد، من مؤسسات وشركات تتشابه في مصالحها، وتختلف في معالجتها، ففي حين تتيح الديمقراطية للأميركيين حرية التظاهر، فإن خروج السوريين إلى الشارع للتعبير عن رأيهم يعني خروجهم إلى الموت.
من الصعب أن تؤثر تظاهرة، أو أكثر، في سلطة المؤسسات والشركات الأميركية المحمية بقوة القانون، فهي ليست بحاجة لاستخدام العنف البدائي المتوحش الذي استخدمه النظام السوري الذي تحول في سنوات ما قبل الثورة إلى نظام ما فيوي بوليسي بالمطلق، في ظل اقتصاد أصبح ليبراليًا، من خلال تبني ما أطلق عليه اقتصاد السوق الاجتماعية، وقد حقق متطلبات “صندوق النقد الدولي” الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
في حين أن صفة الإمبريالية موجودة، بشكل أو بآخر، في النظام السوري، فقد استمر لعقود من الزمن مسيطرًا على القرار السياسي والاقتصادي في لبنان، لكن تلك الصفة لا تشبه سوى الإمبريالية الروسية والإيرانية في همجيتها عند تعاملها مع شعبها، في حين تلتقي جميعها في المصالح مع الولايات المتحدة، وقد تتصارع أحيانًا بينيًا من أجل الاستحواذ على سوق ما في مكان ما، وسورية الآن تخضع لتلاقي تلك القوى، وهي تتقاطع -الآن- في هدف شكلي أكثر منه جوهري، وهو محاربة الإرهاب الذي ساهمت هي في صناعته، وغذته؛ لتخويف الشعوب، ولتسهيل قمعها والسيطرة عليها .
وتبدو الشركات الأميركية العابرة للقارات، مع الملياردير دونالد ترمب، أكثر تصميمًا على الإمساك بالقرار السياسي في مناطق العالم المختلفة، وقد راكمت ثرواتها من خلال دول العالم الثالث خصوصًا، ولم يغتصب ترمب السلطة ولم يرثها عن أبيه، لكنه ورث رؤية مؤسسات، عليه تنفيذ رؤيتها ضمن القانون الذي يفرض عليه -أيضًا- إقرارًا ماليًا عن ثروته التي من بينها شركات، يبلغ عددها 144 شركة، أو مصلحة في قطاع الأعمال، منها 8 شركات في المملكة العربية السعودية، ومشروعات غيرها في 25 دولة حول العالم، من كندا إلى أميركا الجنوبية وأوروبا والشرق الأوسط، وصولًا إلى آسيا، ومقرات بعض شركاته كانت في مركز التجارة العالمي في نيويورك الذي تعرض للتدمير على يد راديكاليين إسلاميين في 11 أيلول/ سبتمبر.
وبحسب مجلة “فوربس” الأميركية؛ فإن بشار الأسد يُعدّ في المرتبة السابعة في قائمة الأغنياء بين الحكام العرب، وقدرت ثروته بنحو 15 مليار دولار أميركي، فيما ذكر موقع “أنفستوبيديا”، إضافة إلى الأصول الثابتة، والأموال المسجلة بأسماء مقربة من الأسد، فإن ثروته تبلغ 122 مليار دولار أميركي.
مصالح الشركات والمؤسسات الأميركية تتقاطع مع بقاء النظام الذي أسس ثروته على حساب التنمية في البلاد، ومن قوت أبنائها؛ ما جعل ترمب يقول بأن الأسد ليس الأولوية، بل يجب استخدامه لمحاربة الإرهاب، ويستخدم الجانبان أي وسيلة للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية، فليس النظام وحده يقتل الناس، ويعترف رئيسه بأنها جراحة يسيل منها دماء، بل أيضا ترمب، إذ يقول في لقاء مع “فوكس نيوز” بأن بلاده ليست بريئة من القتل، حين دافع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووصفه بالزعيم والمساعد الكبير في الحرب ضد “الإسلام الإرهابي”، على حد وصفه. بينما قال له المذيع: إن بوتين قاتل. ورد عليه ترمب: القتلة كثر. هل أميركا بريئة، هل نحن أبرياء.
الجميع يقتل في البلاد؛ من أجل مصالحه واستثماراته ومشروعاته المغلفة بشعارات مختلفة، فشركات الأسلحة والنفط التي تدير قطاعات واسعة توجه اهتمامات الناس، من خلال وسائل الإعلام التي تسيطر عليها نحو هدف واحد، وهو محاربة الإرهاب. وتشير دراسات مختلفة إلى أن صناعة الخوف والكراهية في كثير من المجتمعات، خاصة المجتمع الأميركي، التي بدأها جورج بوش بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، كانت من أسباب وصول شخصية عنصرية إلى البيت الأبيض، مثل دونالد ترمب، لمواصلة الحرب في أكثر من مكان، والهدف هو تحقيق تلك المصالح.
معظم الأميركيين الذين أيدوا ترمب هم من البروليتاريا غير المؤدلجة، بينما مؤيدي النظام السوري هم من “حثالة البروليتاريا”، كما يسميهم ماركس، والاختلاف كبير فدعم تلك الشريحة للرئيس الأميركي الذي لا يصلح إلا مهرجًا في سيرك، بحسب المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، هو لأنهم “غاضبون” من كل شيء؛ بسبب اختلال التوازن بين مستوى دخلهم، وبين حاجاتهم المتزايدة؛ نتيجة التطور الاقتصادي العام، في حين أن مؤيدي بشار الأسد الذين يعانون من تدني مستوى دخلهم حاقدون على كل شيء؛ نتيجة البعد الإيديولوجي المضاف، ولا يجد تربة خصبة له إلا في أوساط الرعاع والحثالة، أو ما يعرفون في سورية بالشبيحة.
لم يكن وصول ترمب الى البيت الأبيض، إلا تكريسًا لدور الشركات والطغمة المالية التي جعلت من موضوع الإرهاب مع بداية القرن الحالي مسوغًا للسيطرة على موارد وثروات بعض الدول، كالعراق وأفغانستان، فيما تسارعت وتيرة نهب ولصوصية الشركات الكبرى بعد الأزمة المالية العالمية، قبل نحو 8 سنوات، وتمركزت ثروات نصف العالم بيد نحو مئة شخص، من بينهم ترمب ومسؤولون عراقيون وإيرانيون، ومن النظام السوري، إضافة إلى بوتين الذي تضاعفت مبيعات بلاده من السلاح، من خلال قتاله إلى جانب النظام، عما كانت عليه سابقًا، باعتراف وزير دفاعه.
تاريخيًا لا يوجد تلازم بين مصالح الشركات العابرة للقارات أو المتعددة الجنسيات، وعلى رأسها شركات ترمب، وبين الديمقراطية، بل ترى أهمية وارتياحًا في التعامل مع نظام قوي، ولو كان استبداديًا، فهو يؤمن استقرارًا خصوصًا لاستثماراتها وتعاملاتها المصرفية.
تبقى الثورات الديمقراطية مرتبطة بالتطور الاجتماعي، خصوصًا مع وجود طبقة وسطى متماسكة، وهي ما بدأت ملامحها بالظهور قبيل الثورة السورية التي أكثر ما كان النظام يخشاها، حيث قتل واعتقل خيرة أبنائها، من ناشطين مدنيين وأطباء وإعلاميين، وهؤلاء الضحايا يلتقون في الرؤية الفكرية التحررية مع المتظاهرين الأميركيين الذين خرجوا للتنديد بعنصرية ترمب، فهم جميعًا لم يتظاهروا من أجل المال، وإنما من أجل الحرية وكرامة الإنسان.