كان سؤال الوطنية السورية الجامعة، واحدًا من أهم الأسئلة التي استحضر الثوار أهميتها مع انطلاقة الثورة السورية. ويمكن التدليل على الحضور القوي لهذا السؤال في شعارات الثورة الأولى، وفي آليات العمل الثوري الذي قاده الشباب، وفي مخرجاته الاجتماعية والسياسية قبل التشويش عليه… واليوم، يبدو أن هذا السؤال مازال الأكثر أهمية، ولا يمكن أن يتقدم المسار الثوري التطوري من دون حضوره الدائم. نسوق هذا التقديم بقصد ضبط دلالي لمفردة “السوريين” الواردة في العنوان. فـ “السوريّة” التي نعني، هي تلك التي تستند إلى أساس وطني، يُترجَم سياسيًا بدلالة السعي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، التي تُبنى -بالضرورة- على أساس تعاقدي حديث، بعيدًا عن التموضع الأيديولوجي أو المذهبي أو الطائفي أو الاثني… إلخ.
تبدو سوريتنا بهذا المعنى شرطًا لازمًا لحريتنا، ولكرامتنا. ومن ثَمّ؛ شرطًا ضروريًا لبناء مؤسساتنا السياسية، وقاعدة أساسية لبناء الخطاب والأداء السياسيين، والتخلص من حكم الطغمة. ولكن ليست السورية بهذا المعنى مُعطًى ناجزًا، وإنما هي عملية بناء مستمرة؛ فالأوطان بالمعنى السياسي -والأخلاقي أيضًا- يبنيها الإنسان ولا تمنحها الطبيعة. ومن ثمّ؛ تصبح آلية البناء وسيرورته سؤالًا سابقًا لآلية السياسة وسيرورتها. إحدى الترجمات العملية لهذا الكلام -اليوم- نراها في الحكم الآتي: يجب علينا إنجاز مجموعة من المفاوضات مع أنفسنا، بوصفنا سوريين، قبل أن نذهب لنفاوض النظام. فالتفاوض مع النفس سابق للتفاوض مع الآخر، و”الجهاد ضد النفس” -على حد تعبير الياس مرقص- سابق للجهاد ضد العدو. ونسوق عشرة أنواع من جملة المفاوضات التي لا بد للسوريين -بتقديرنا- من القيام بها قبل أن يفاوضوا النظام:
أولًا: تفاوض مع البدوي الثاوي في ذواتنا
إنها المفاوضات مع البدوي الذي يقبع في ذواتنا، الذي يجعلنا نميل إلى تغليب العصبية على الوطنية، ويجعلنا -من دون أن نشعر- نئد وأدًا جاهليًا أي مولودٍ تعاقدي بيننا (بالمعنى الـ “جان جاك روسي” للتعاقد). في هذه المفاوضات، نسعى لعقد هدنة معه، تمهيدًا لحوارٍ طويل لاحق، يجعله يتمدن ليكون أهلًا للسياسة وللديمقراطية.
ثانيًا: تفاوض مع الأنا المتضخمة فينا
هو تفاوض مرجعيته الحقيقة الآتية: بقدر ما تتحدد قيمة الجماعة ومكانتها بقيمة أفرادها ومكانتهم، فإن قيمة الأفراد تتعزز بقيمة الجماعة وبمكانتها. وعليه؛ لا يجدي أن يستعلي أحدهما على الآخر. وفي الماضي القريب عبرة لمن أراد أن يعتبر.
ثالثًا: تفاوض مع الجمود والكسل
لو لم يكن فينا (نحن السوريين) كسلًا ينتج منه جمودًا، ويُنتِج لنا مراكمةً مستمرة للفشل، (إذ إنه يؤدي إلى التعاطي مع القضايا المختلفة بالطريقة نفسها)؛ لاهتدينا إلى أهمية الجهد العقلي التحليلي المعرفي والفكري في السياسة، ومن ثَمّ؛ نعتقد أن علينا التفاوض مع هذا الجانب الكسول فينا؛ ليتوقف عن إملاء مُطلقاته الهدَّامة في نسبية قضايانا.
رابعًا: تفاوض مع الجانب المؤسطر فينا
هو تفاوض مع موروثنا: الديني، والأيديولوجي، وخصوصًا مع جزئه اللاعقلاني والدوغمائي الذي ما لبث يغزو أفكارنا بسلاحٍ مدمر فتاك. هو تفاوض يجعلنا نحترم تراثنا ونتصالح معه، فلا ننظر إليه نظرة إنكارية احتقارية، ولا نظرة تبجيلية تقديسية. هي المفاوضات اللازمة لنتمكن من امتلاك ثقافة النقد البناء، وثقافة العقل الحر الأصيل. وهي ضرورية_وهذا الأهم_للتخلص من نمط التفكير الدوغمائي الذي يتميز بالتقليل من قيمة الأسئلة العقلية والنشاط العقلي الاستنتاجي التحليلي، ولا يقيم وزنًا كبيرًا للصرامة المنطقية، وذلك؛ بسبب إيمان حامليه المطلق بحقيقة معينة، تكون بالنسبة إليهم مكتملة، وقد اكتشفت دفعة واحدة في مرحلة ما من التاريخ.
خامسًا: تفاوض مع الجانب الفوضوي فينا
التنظيم عمود السياسة الفقري، وهو فن وإبداع فكري سياسي قبل أن يكون قانونيًا. ولكي تستقيم السياسة يجب أن ندخل في تفاوض مع جزئنا الفوضوي؛ لينتظم، أو ليكف عن عرقلة محاولات التنظيم. أهمية التنظيم من أهمية العمل الجماعي، ولا يستوي أحدهما من دون الآخر، فالتنظيم يعطي للجماعة غاية وكيانًا، ويمأسس العمل السياسي؛ ليتمكن من التعامل كما يجب مع حالات التدافع؛ لتحقيق مصالح شخصية، ومع ظاهرة الصراع على “القسمة” قبل أن تأتي “الغنيمة”.
سادسًا: تفاوض مع جزئنا الأرعن
سياسيو المعارضة -أغلبيتهم- شخصيات ثورية أكثر من كونها سياسية، بمعنى أنهم يميلون نحو الانفعال السريع غير المدروس على حساب التحليل الهادئ المدروس. ويكثر الدفق العاطفي في توجيه سلوكهم، بينما المطلوب في مرحلة من المراحل هو التفكير العلمي الدقيق، من ثم؛ يشكل لتجريب لهم ملجًأ سهلًا؛ لأنه أقل الطرق حاجةً إلى التعب والمجهود والسعي والبحث خلف المعرفة، وخصوصًا بشكله المبتذل المبني على المعلومات المتناقلة شفويًا. هذا الجزء الأرعن فينا يجب أن نفاوضه على الانحسار والتغيير.
سابعًا: تفاوض مع جزئنا الكاذب
وللكذب فينا نوعان: على الآخر، وعلى الذات (وهم). وكلا النوعين قادرٌ على هدم المشروعات الوطنية الكبرى. نفاوض هذا الجزء على التوقف، مقابل النهوض بواجبنا الوطني في استيعابه وعلاجه.
ثامنًا: تفاوض مع جزئنا المرتهن للآخر
السياسي السوري الذي لا يضع المصلحة الوطنية السورية نصب عينيه، يعرقل سيرورة بناء الوطنية. نفاوض هذا الجزء على التخلي عن ضلالته، من دون شروطٍ مسبقة، وفي المقابل نسعى -بعدئذ جاهدين- لتعليمه معنى الوطنية السليم.
تاسعًا: تفاوض مع النساء منّا
نفاوضهن على أن نتعهد لهن بأن نتشبع بحريتهن فكرًا وممارسة، وأن نضمن حقهن في العيش من دون هيمنة ذكورية، ويتعهدن بأن يكن فاعلات، ويتحررن من عقدة الأنوثة: سواء الدونية منها أم الشوفينية.
عاشرًا: تفاوض مع الكهلة منا
يمكن للمُطلع على أوساط الشباب السوري الوطني، وأوساط المعارضة الوطنية الهرمة، أن يجد فروقات في نمط التفكير، فتفكير بعض الشباب حداثي، وينظر إلى لماضي القريب بطريقة أقرب إلى التحليل الموضوعي العقلاني منها إلى الطريقة التوصيفية التي تحمل كثيرًا من الشخصنة، وتصبغ نمط تفكير الجيل الأكبر سنًا من المعارضين. نفاوضهم على التخلي عن ذهنيتهم الاحتكارية، والتخلي عن الفرض والاستخفاف بالشباب، ونقدم لهم ما يستحقون من الاحترام، ونضعهم موضع الحكماء والناصحين والمرشدين وما يليق بخبرتهم.
كان هذا -برأينا- بعض من أنواع التفاوض الأولي مع الذات، الضروري إنجازه قبل الذهاب إلى التفاوض مع النظام/الطغمة. ذلك؛ لأنها [تلك الأنواع] تجعل مهمة التفاوض مع النظام اللا وطني أكثر سهولة ويسرًا. ولأنها -أيضًا- مفاوضات ضرورية؛ من أجل إعادة البناء العقلاني لسيرورة السياسة، ولسيرورة المعرفة السياسية، تمهيدًا لبناء الدولة السورية الوطنية التي ينتفع منها الجميع.