لا جديد سوريًّا، المقتلة مستمرة، تنشر واحدةً من أعرقِ المنظمات الحقوقية الدوليّة تقريرًا مرعِبًا عن إعدام ثلاثة عشر ألفًا من البشر في سجنِ صيدنايا، نعتقِد لوهلةٍ أنَّ تقريرًا كهذا لا بدّ من أن يقلبَ الطاولة على القَتَلة، ولا بدّ أن يدفَع بالعالم إلى فِعلِ ما يجب فعله، فالأمرُ يتعلّقُ “بمسلخٍ بشريّ” في القرن الواحدِ والعشرين، حيثُ يُقدِمُ نظامٌ ما زالت منظمة “الأمم المتحدة” تستضيفُ ممثّليه تحت سقفها، على قتلِ آلافٍ من الحيواتِ البشريّة في طمأنينةٍ مهولة، مستمرئًا فِعلَتَهُ، إذ ليست الأولى ولا نحسبها الأخيرة. سبق وأن شاهد العالم بأمِّ عينِه صورًا لآلاف الجثث التي سرّبها قيصَر، صور أعادت إلى الذاكرة مشاهِدَ الحروب العالمية التي شنّها الطغاةُ على البشريةِ العاجِزةِ والمسلوبة الإرادة.
ربّما يعرِف السوريّون أكثر من غيرهم، أنَّ جريمةً كهذه ليست سوى غيض من فيض، في سياقٍ طويل من العذابات التي شهِدَتها أجيالٌ تِلو أخرى في عهد الدولة الأسدية، تلك الدولة التي ما من وصفٍ ينطبق عليها مثل وصفِ السوسيولوجيّ الفرنسي، البيرزيتيّ المولد، ميشيل سورا، إذ وصَفَها سورا بالدولة “البربرية” في كتابٍ ظهرَ بالعربية أخيرًا بعنوان “سوريا، الدولة البربريّة”، كانَ سورا قد أقامَ في دمشق لفترة وجيزة قبل أن يغادرها إلى بيروت نهاية السبعينيات، إذ قضى فيها مخطوفًا على أيدي جماعةٍ لم تكن بعيدةً عن نظام حافظ الأسد وقتئذٍ.
في كتابه الذي أشرنا إليه، يستعين سورا بإبن خلدون لتعرِيةِ النظام السياسي الذي أرساه الأسد الأب، في ما يتعلّق تحديدًا بمفهوم العصبيّة، بوصفها واحدةٍ من أعمدة الحُكمِ الثلاثة، كانت العصبيّة التي ابتكرها الأسد الأب تقوم على الخديعةِ والكذِب، إذ تبنّى جملةً من أكثر الشعارات رواجًا آنذاك؛ ليقّدِّمَ نظامه الاغتصابيّ نظامًا تقدميَّا مناوئًا “للرجعيّة”، ولتعميمِ عصَبَيّتهِ المُبتَكَرة، احتاجَ الأسد إلى حزبٍ أراجوزيّ ينهضُ بالمسؤوليات التعبويّة، فيما كان العنف هو أعمق الأدوات وأكثرها فاعليّةً بيدِ الأسد ودولته البربريّة. كان العنفُ الأسديّ -وما يزال- عنفًا بربريًّا وأعمى، تحرّكُهُ غريزةٌ من خوفٍ قديمٍ لازمَ الطغاة، فيما كانت عقدةُ اللاشرعيّةِ مصدرًا للخوفِ والسّعارِ الملازِمَينِ لدولةِ حافظ الأسد، وهو ما ورثَتهُ دولةُ الابن بالضرورة.
عبرَ تاريخها الدمويّ، يصعُبُ على المرءِ أن يميّزَ مشروعًا واضحًا لدى تلك الدولة “البربرية” سوى مشروع السلطة والحفاظِ عليها بأيّ وسيلةٍ كانت، وبصرفِ النظر عن أخلاقيتِها، تشتبك الغاية بالوسيلةِ في إطارٍ عنفيٍّ على نحوٍ مروّع. وفي الوقت الذي أخذت فيه السياسة بالتراجع، منحطَّةً إلى جبهةٍ من المصفّقين وضعهم الأسد الأب عن يمينه وعن شماله، كانَ العنف وحده ما يتطوّر في البلاد. تناسلت الأجهزة الأمنية والقمعية واحدًا تلو الآخر؛ حتى راح السوريّون يتندّرون بأنَّ دولتهم هي دولة الرفاهية الأمنية؛ إذ لكلّ مواطنٍ مخبِر.
فالعنف إذن؛ شرطٌ لازمٌ في تحقيقِ الأبديةِ التي هَجَسَ بها الأسد وحكمَ باسمها. وإذا كان العنفُ الذي انتهجتهُ الدولةُ الأسدية عنفًا عارِيًا وبدائيًا، إلاّ أنّها كذلك دعمته بأنماط هجينةٍ من الخداع والكذب والمراوغة، تجلّت في حزمةٍ من الشعارات الرخيصة والكالحة التي لقّنَتها لجمهورها الذي انخرطَ معها في علاقةٍ تعاقديةٍ كان شرطها: هاتِ عقلَك وخذ أحابيلي. وإذا كانت تلك الأضاليلُ لم تنطلِ على غالبيةِ السوريين الذين صمتوا قهرًا طوال عقود، فإنه من الواضح أنّها ما زالت تقبعُ في نفوس بعضِهم إلى اليوم، ما زالَ هؤلاء كالأواني الفارغة، يملؤها النظام بسمومه، ثمّ يلقي بها على رؤوس سواهم من السوريين.
بالنسبة لهؤلاء، فإنَّ تقريرًا كهذا لن يسترعي انتباههم، وإن حصَلَ وانتبهوا، فلن يقع انتباههم سوى في معرِضِ استنكارهم وإدانتهم، إذ إنّه فصلٍ جديدٍ -فحسب- من فصول “الحرب الكونية” على نظامهم الممانع، وتدخّلًا في شأنٍ داخليّ، ألا تبيحُ السيادة الوطنية للحاكم أن يقتلَ الخارجينَ على حُكمِه؟ ثمَّ ما الجديد في الأمر؟ هل أرعبكم الرقم؟ سبقَ لقيادتنا “الحكيمة” أن تجاوزت أرقامًا كهذه الأرقام ومنذ عقود، ألَم نقتلكم في حلب وفي جسر الشغور وفي حماه؟ ألا تعرفون مدينة حماه السورية؟ حسنًا، إنها المدينةُ التي أعدنا إليها تمثالَ “الأب القائد”، سفّاحنا الأوّل، ومصدر فخرنا واعتزازنا الأبديّ، كلّما قَتَلَكم أحبَبناه، ثمَّ ماذا أنتُم فاعلون؟ قتَلَكُم الأب ويقتلكم الابن، فهل نفعكم العالم الذي لم يعد قادرًا على فعل شيء أكثر من استقبالكم لاجئين، وعلى مضض؟! ذلك هو لسانُ حالِ البرابرة الصغار، عبيدُ الطاغية البربريّ الذي يرونه كبيرهم.
لا جديدَ يُذكَر، يقول التقرير بأنَّ قرارات إعدامٍ بهذه الكثرة لا بدّ من أن يصادِقَ عليها “رئيس الدولة”، لا شكّ في أنّ دبلوماسية التقرير لم تسمَح لمحرّريه بأن يصفوه بـ”رئيس المسلخ البشري”، سَبَق أن وثّقت “منظمة العفو الدولية” وعدد من المنظمات الحقوقية في تقارير سابقة؛ جرائم تعذيبٍ وإعدامٍ في المعتقلات السورية ضد المعارضين المدنيين والسلميين، لا تقلُّ فظاعةً عمّا جاء في التقرير الأخير، كلّ ما في الأمر أنَّ العالم بات أكثر دبلوماسيةً ورأفةَ، وربما أكثر عجزًا، حتى صار يُسَرّب تقاريره تقسيطًا، كأنّما ليخفّف من آثارِ صدمةٍ مفتَرَضة!.
لا جديد يُذكَر، وليس من عبثيةٍ أشدّ مما نحياه اليوم، فتقريرٌ كهذا، يجعلنا نتخيّلُ نحن -السوريّين- أنَّ العالم سينتفض عن بكرةِ أبيه؛ ليُشعِل الإطارات على أبواب سفارات القتَلة، وليغلق الطرقات في وجه السياسيين المتواطئين على إدامةِ هذه المقتَلة، وليدفع بكبارِ السياسيّين إلى الاستقالة، غيرَ أنَّ شيئًا من ذلك لا يحدُث، فالعالم الهائم على وجهه، لم يعُد يلقي بالًا لأخبار عابرة، كهذه الأخبار، ثمّة ما هو أهم، محاربة الإرهاب مثلًا، ليس إرهاب الدولة البربرية، إنّما الإرهاب الذي يروق للعالم صناعته، ثمّ محاربته، ثمّ إعادة خلقِه، في لعبةٍ لا يبدو أنّ لها من نهاية. غيرَ أنًّ المفارقة الأشدّ إثارةً للسخرية والمرارةِ، في آنٍ معًا، هي أن يخرج رئيس المسلخ البشري صبيحةَ اليوم التالي لنشر التقرير، لا ليُعلِّقَ عليه، ووإنما ليُشارِك رئيس الولايات المتحدة الأميركية الجديد قَلَقَهُ من اللاجئين ومن الاحتمالات المتزايدة لوجودِ إرهابيين بينهم.
تعليق واحد