في ظل الصراع القائم في الشرق الأوسط، وتمايز الأطراف المتصارعة اثنيًا، يحاول الكتّاب والمفكّرون التصدي لمفهوم الطائفة، ومحاولة فهمها، بوصفها محرّكًا لسلوك الأفراد والمجموعات.
تمايز المجموعات ضرورة في صيرورة التطور البشري، لما له من أهمية تطوريّة وفي الحفاظ على البقاء. وهذا التمايز يقود في قسم منه إلى صراعات قد تكون مدمّرة، كالحروب الأهلية مثلًا. لا يجلاري التمايز على صعيد المجموعات فحسب، بل يحتاج الفرد أيضًا الى التمايز عن عناصر مجموعته، فهو يتماهى معهم كعضو فيها مقارنة بمجموعة أخرى، ويتمايز عنهم في المجموعة ذاتها. يبقى السؤال المهم في هذا السياق، ما جملة الدوافع التي تحكم هذين السلوكين أو لنقل النزوعين، النزوع الى التجمّع والنزوع الى التميّز وحدةً مستقلة؟
يتناول المفكرون والكتاب العرب الهوية السيسولوجية انطلاقًا من وظيفتها التمايزيّة ويستدلّون إليها بدلالة الآخر (المجموعات الأخرى)، فيبحثون في وظيفتها وحدةً بين وحدات أخرى. هذا -مثلًا- لا ينطبق على الحيوانات، عندما (تتجمّع) لاصطياد فريسة ما، فوظيفة المجموعة هنا ليست متعلّقة بمجموعات أخرى. هذا الطريق، وإن بدا لأصحابه سالكًا، لا يقود للوصول الى ماهية الهوية السيسولوجية، فالتمايز هو قطب على محور اتجاهه الآخر هو فعل التماهي مع أفراد المجموعة أو الصفات العامة للمجموعة، هذا الذي يشبع حاجات نفسية معينة للفرد، من خلال وجوده في أطر المجموعة. إذن تتمايز المجموعة عن المجموعات الأخرى، ولكن الفرد يتماهى مع مجموعته. هذا التماهي هو أصل بناء المجموعة وليس تمايزها.
بدايةً، ينطلق علم النفس الاجتماعي الحديث في أبحاثه من مسلّمه مفادها، أنّه لا يمكن مقاربة هوية المجموعة إلاّ من خلال مقاربة هوية الفرد عضوها، فالأبحاث السيكولوجية السيسولوجية تقول: إنّ الهويةالسيسولوجية (SI = Social Identity) جزء من الهوية الذاتية، وأصغر منها بالضرورة، بمفهوم (كمّي). إذن؛ لا يوجد هوية جماعية بل هوية سيسولوجية للفرد.
المجموعة هي جملة من الأفراد تتعالق فبيما بينها لغرض تقديم وظيفة أو منفعة مشتركة، مادية أو نفسية، ويمكن للفرد أن يكون عضوًا في مجموعات متعددة ومتشابكة في آنٍ واحد.
الهوية هي الجواب عن سؤال (من أنا؟) وهي على بعدين: بعد ذاتي يتعلق بجملة المعارف عن الذات، بل وتوابعها السلوكية والشعورية، وذلك بوصفه فردًا، وبعد مجتمعي، أي المعرفة الذاتية عن عضوية الفرد في مجموعات تتمتع بصفات وحدود معينة (الهوية السيسولوجية). إنّ الخوض في أحدهما دون الآخر، غير ممكن وذلك لأنهما، كما أسلفنا، بعدي الهوية الشخصية والعلاقة بين هذين البعدين هي علاقة تكامل ونضوج الأول يؤثّر على الثاني.
إذن؛ هي عملية تحكمها قوتان، يمكن أن نطلق عليهما تجاوزًا قوة جاذبة وقوة نابذة، فالأولى هي قوة تنحو إلى مركز الوحدة الاجتماعية وهي قوة تجانس والأخرى تنحو الى الخارج وهي قوّة تمايز. هذه الآلية لا تحكم سلوك الفرد في الوحدة الاجتماعية فحسب، وإنما سلوك المجموعة بين المجموعات الأكبر ايضًا. إذن؛ للهوية الأثنية وظيفة تمايزيه، ولكن لها وظائف أخرى.
تكمن أهمية التمايز في بعده النفسي في وضع الحدود فبقدر الحاجة إلى التماهي مع المجموعة في الأحوال غير المواتية للبقاء، تزداد الحاجة الى التميّز والتفرّد في ظروف الرغد والهناء. هذا التمايز يعتبر حاجة انطولوجية وضرورة تطورية. طبعًا يمكن القياس هنا على التمايز البيولوجي للخلايا، فهي تتعقد وتتمايز وظيفيًا (نوعيًا) بعد نموها الى عتبة معينة (كمّيا).
تُظهر الدراسات، أنّ الحاجة الى البعد الجمعي تتضاءل بتطور وصقل البعد الفردي للهوية، إذن يكون التمايز هنا على حساب التماهي؛ ولذلك نلاحظ مثلًا، أنّه في حال الهويات الفردية الغير متمايزة، كما في سنين المراهقة مثلًا، تزداد الحاجة الى التجمّع والتماهي مع المجموعة، لهذا يعتبر صقل البعد الفردي بالثقافة والقيم أحد أهم الآليات لمواجهة التماهي مع المجموعة. المجموعة تقدّم في هذه الحالة إمكانية للتعرّف على الذات من جهة ومن جهة أخرى آلية للتعويض النفسي على مستوى القيمة الذاتية بمعيار شخصي. هذا التمايز يحتاج الى جملة مقارنة وعلية يجنح الفرد الى تفضيل مجموعته على حساب المجموعات الأخرى، بل العكس أيضًا، فالحطّ من قدر الآخر يعني بشكل مبطّن الرفع من قدر الذات وهنا ينشأ الديناميك السلبي بين المجموعات.
إذن؛ يمكن عدّ الهوية السيسولوجية مكمّل للهوية الفردية وتزداد أهميتها في الأحوال الصعبة وغير المواتية لفعل التمايز، بينما تقلّ الحاجة لها في الأحوال (التطورية) المناسبة وكلما جرى صقل الهوية الفردية بالثقافة والقيم.
هنري تاجفل، الباحث المهمّ في الهوية السيسولوجية، وضع مصطلح (minimal group paradigm) فقد استطاع، من خلال تجارب متعددة، إثبات أنّ الديناميك السلبي بين المجموعات ينشأ حتى في حدود ضعيفة أو مُتخيّلة للمجموعة.
على الرغم من يفاعة علم النفس الاجتماعي فقد تعددت النظريات التي حاولت فهم ميل الفرد الى التجمع والتماهي مع المجموعة. وهذه هي أهم النظريات في هذا السياق.
1- عمليات التصنيف (Categorization processes) هنري تاجفل 1971
تقول بأن الكائن البشري ينزع فطريًا إلى تقسيم الوسط المحيط، الاجتماعي هنا، إلى مجموعات، من خلال ملاحظة جملة الروابط، التشابهات والتناقضات بين وحداته وذلك لتسهيّل إدراكه، هذه العملية ليست تصنيّفية بحت، بل تحمل ايضًا بين طيّاتها تقييمات ومشاعر سلبية وإيجابية.
2- نظرية الهوية الاجتماعية (SIT = Social Identity Theory) تاجفل وتورنر 1986:
يعد الباحثان أنّ الكائن البشري ينزع إلى هوية إيجابية، أحد جوانبها هو الانتماء إلى مجموعة تتمتّع بصفات ايجابية بنظر الشخص نفسه. هذا النزوع يدفع الى محاولة رفع شأن المجموعة (in-group) والتقليل من شأن المجموعات الأخرى (out-group)
3- نظرية الصراع الحقيقي للمجموعات(Theory of realistic group conflict) ِشيرف 1966:
تفترض النظرية، أنّ المدخرات المتوفرة في البيئة المحيطة محدودة ولذلك يصبح الصراع على هذا المدخرات ديناميك طبيعي، هنا يقصد بالمدخرات المادي والمعنوي منها. تمّ في تجارب لاحقه نقد هذه النظرية، حيث أنّ المدخرات المادية، كعامل، لوحدها لم تكن كافية لخلق الصراع بين المجموعات.
4- نظرية حتمية الموت أو السيطرة على الخوف (terror management theory) غرينبرغ وسالمون 1986:
تفترض هذه النظرية، أنّ الكائن البشري يبحث عن (الخلود) في ضوء معرفته بحتمية موته وهو لذلك ينزع لاشعوريًا الى دعم كل ما (يشبهه) من الأفراد، وبالتالي يصبح كل ذو شبهٍ امتداد لذات هذا الفرد وحامل لجيناته على محور الزمن. ففي دراسة حديثة تم إثبات، أنّ فعل التماهي يتصاعد في ظروف الإحساس بخطر الموت. هذه النظرية تفسّر بقدر جيد ميول البشر الاثنية في حالات الحروب.
لابدّ من استذكار، أنّه في حالات الحروب، أي الفقر والخوف تصبح إمكانية إجراء المحاكمات العقلية المتجرّدة أضعف ويميل الفرد الى الأحكام الجماعية، الإسقاطات الذاتية والصور النمطية المسبقة، هذه التي تسهّل (إدراك) الوسط المحيط وتوفّر الطاقة النفسية التي يأكلها (عثّ) الخوف والألم. طبعًا يقع هذا التوفير على حساب الموضوعية والتجرّد في الإدراك والمحاكمة.
إذن؛ يجب مقاربة الهوية السيسولوجية وفق إحداثيات متعددة وبطرق تجريبية (Empirical) وليس فقط بطريقة استقرائية أو من خلال وظيفتها التمايزية بوصفها مجموعة، فهي حاجة سيكولوجية للفرد وهي محرك سلوك في إطار المجموعة.
ثمة أمثلة تظهر أن هذه المعرفة تم استخدامها لمآرب سياسية وهكذا كان للعدو المشترك مفعول مهم للانطواء تحت جناح المجموعة والانخراط في ثقافة القطيع، فقد استطاع جورج بوش، مثلًا، بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، استهلاك خوف البشر في الغرب من (الإرهاب)، ومن خلال خلق العدو المشترك (التطرف الاسلامي)، فُعّل مصطلح (التماهي) مع المجموع المسيحي المستهدف.