تحقيقات وتقارير سياسية

سياسيون صغار لتحديات كبيرة

لا يكفي أن تكون سورية بلا سياسة كي نقول إنها بلا سياسيين أيضًا، ولعل الأمر يستقيم منطقيًا؛ فغياب السياسة دليل على غياب السياسيين في النظام والمعارضة!

ليس في هذا الحكم تجن على أحد، أو تجاهل لأسماء بعينها، تصف نفسها بالسياسية، ولا هو إفتئات على الحقيقة والواقع.

قد يكون القول صادمًا لبعضهم، وقد يكون مفاجأة لآخرين، لكنه حالنا بدون رتوش أو مساحيق تجميل أو مجاملات.  فقد كشفت الصراعات الأخيرة لتشكيل وفد معارضة موحد لمواجهة استحقاق جنيف 4، وما دار في الكواليس بين المنصات المتعددة، والمتزايدة باضطراد (آخرها منصة بيروت)، وتعدد المؤسسات والجهات التي تغتصب تمثيل الشعب وتجسيد المعارضة، فضلًا عن كل تجاذبات المراحل الماضية ومتعطفاتها.

في مدى سنوات الثورة الست لم تبرز شخصيات سياسية، تبوأت مواقعها عن جدارة واستحقاق، وقدمت خطابًا وطنيًا معبرًا، وشكلت حالة التفاف شعبي حولها، وبثقة ودعم كبيرين، تنمّ عن حضور واحترام، وفهم لقواعد السياسة وقوانينها، وقراءة دقيقة متجددة لتداخلات الثورة- الأزمة مع قضايا الإقليم والعالم ومصالحه.

بمعنى آخر ليس هناك “جماعة” تمتهن السياسة بصفتها فعلًا وطنيًا، وحاجة موضوعية للمجتمع تعبر عن مصالحه وطموحاته، وتشكل مركز استقطاب مؤثرًا وفاعلًا وصاعدًا إلى الأمام. ولا يتعارض هذا مع وجود شخصيات وطنية بارزة ونخبة مثقفة وأكاديمية ذات تاريخ نضالي مشرف في مجالات عدة، وفي مجالات الفكر والثقافة عامة. ولا يُنكَر وجود أحزاب ومجموعات سياسية ضحت وناضلت وقدمت كثيرًا في مواجهة الاستبداد ومنظوماته، ولكنها استنفدت أغراضها التاريخية، وأخرى تشكلت في ظل الثورة قطعت مع الماضي، ولكنها عجزت عن تشكيل حالة نهوض عامة، تستطيع إقناع الشارع بمواقفها وسلوكها، بل على العكس فقد تهاوت شخصيات كان يُنظر إليها بإيجابية، بعدّها رموزًا وقامات وطنية تحظى بقدر من الاحترام والتقدير، وظهر مدى ضعفها وهزالها وتذبذب مواقفها.!

(لقد أعادت الثورة السياسة للمجتمع) ذلك قول صحيح ومهم، ولكنه لم يفرز حتى الآن نماذج لساسة مؤهلين بالمواصفات التي أشرنا لها، إذ ربما يحتاج مناخات أكثر مواءمة، كان لها أن تظهر لو أن الثورة بقيت في إطارها السلمي المدني الذي أبرز بلا شك قادة وأسماء، كان يمكن أن تتأهل للتحول من قادة محليين ورموز وطنيين إلى ساسة وقادة كبار يحسب لهم حساب، يخلقون تحولًا في واقعنا وأوضاعنا.

ما تقدّم لا يتناقض وانتهاء سحر ” كاريزما الزعيم الرمز” الملهم، الأوحد، المحرك للأحداث، بل هو تدعيم للفكرة وتأكيد لها، والحاجة هنا إلى ساسة ومجتمع يتعاطى السياسة بقوانينها لا بالمزاج، وبحسب الأهواء والمصالح.

حسمت المعارضة نزاعاتها وشكلت وفدها الذي غلبت عليه المحاصصة، واستبعدت أسماء واستقدمت أخرى، في حالة من بعثرة الأوراق وإعادة جمعها، ليس تعبيرًا عن ديمقراطية التشكيلات والمرجعيات، بقدر ماهي تعبير عن مأزق وفشل لا تعرف طريقًا للخروج منه، زاده سوء بروز العسكر ومحاصصتاهم، إلى ما يقرب “النصف المعطل”، إن جاز التعبير، وفي ظل أزمة عاصفة يعيشها “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، تعبر عن نفسها بانسحابات متتالية لشخصيات أو ممثلين عن قوى، فقدت القدرة على التوافق والتغيير والاستجابة للمرحلة.

من نافل القول تأكيد أن لا سياسة بلا سياسيين، وهو محصل طبيعي للاستبداد الذي فعل فعله في مدى عقود طويلة أنهكت مجتمعنا، ويكشف نتائجه بأكثر مما كنا نتصوره، أو نتوقعه، ولكنه أيضًا يشير إلى بنيات وتكوينات وأمراض تقتضي معالجات حقيقية وعميقة، للانتقال من حالة الفوضى والتخبط إلى حالة الفعل الممنهج، والعمل المدروس.

من طبائع الاستبداد تعقيم المجتمع؛ لمنع بروز شخصيات كاريزمية في أي مستوى كان، سياسي، اجتماعي، ثقافي، وإخصاء المجتمع ومحاصرته؛ للحيلولة دون ظهور قيادات منافسة، وليبقى الزعيم هو الأوحد على الصعد كافة.

لا ساسة في سورية، قول يشير إلى واحدة من أزمات عديدة، يرتبط حلها بانتظام الأفراد، وقوة المجتمع المدني، ومناخات الحرية. يعود جذر الارتباك في المشهد عمومًا، إلى سنوات وعقود منعت فيها السياسة عن المجتمع، ولم تغيرها بعد سنوات الثورة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق