اقتصاد

عن الأموال التي يتطلع إليها اقتصاد الأسد المنهار

يَرُدّ السوريون بالمثل الشائع: “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، كلما حاولت حكومة الأسد، استقطاب مدخراتهم، في استثمارات يحتاجها اقتصاد الحرب لتمويل آلتها العسكرية، وتمعن أكثر في تدمير حياتهم بوجوهها المختلفة.

هم محقون في جوابهم، فبعد أن هرب الرأسمال الأجنبي، منذ الأيام الأولى لاحتلال الدبابات شوارع المدن الرئيسة أواسط عام 2011، تجنبًا لأي خسارة محتملة، لحق بها الرأسمال الوطني، هربًا من سلطة “مافيوية” تتحكم بحركة الإقتصاد وفق مصلحة نظام يقتل السوريين برصاص سددوا ثمنه من طعام أطفالهم.

تقدر -اليوم- الودائع السورية في الخارج بنحو 60 مليار دولار، يجري استثمارها في تركيا والأردن ولبنان ومصر. وبحسب الخبير الاقتصادي، فادي الاتاسي، فإن “قسمًا كبيرًا من السوريين أدرك تمامًا، أنه من غير الممكن مساعدة نظام كهذا، وعلى النحو الذي يريده في حرب يخوضها ضد شعبه، تدعمه فيها ميليشيات إقليمية وأجنبية، ينفق على مرتبات أفرادها ملايين الدولارات”. وأضاف لـ (جيرون): بعد ست سنوات من حرب دمرت الصناعة والزراعة والسياحة، وقطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية، تآكلت بنية الإقتصاد. ولم يبق للسلطة من داعم غير شركائها. ومن ثَمّ؛ لم يعد بإمكان النظام الوفاء بالتزاماته المالية تجاه الذين يدافعون عنه، وها هو في الوقت الراهن يبحث عن مدخرات المواطنين؛ لمساعدة اقتصاده المنهار في الوقوف على قدميه، أو ضخ الحياة فيه، على أقل احتمال.

وأشار الأتاسي إلى أن قطاع الاستثمار في سورية، يعاني -بالأساس- من خلل في بنيته، نتيجة السياسات الغامضة التي انتهجها طوال العقود التي مضت، “فعندما ندقق في التوزع القطاعي للاستثمار الأجنبي المباشر مثلًا، نكتشف أن الاستثمار في قطاع النفط والغاز يشكل الحصة الأكبر، ما يدل على أن الحكومة وبتوجيهات رأس هرم السلطة، اعتمدت في سياستها على الاستثمار الأجنبي المباشر المنجذب نحو الموارد، لدعم محفظة النظام المالية، مقابل اعتماد ضعيف على الاستثمار الخارجي الباحث عن السوق، أو الكفاية، اللتين لهما الأثر الأكبر في عملية النمو والتنمية. وهذه السياسة الاستثمارية، تفرض علامات استفهام حول الطريقة التي كان الإقتصاد يدار بها، في فترتي الأسد الأب، والأسد الوارث”.

تشير تقارير رسمية محلية إلى أن عدد المشروعات التي نفذت بموجب قوانين الاستثمار خلال عام 2014 “آخر إحصائية متوفرة” بلغ ثلاثة مشروعات فقط، مقابل 34 مشروعًا جرى تنفيذها عام 2008. فيما بلغ عدد المشروعات الاستثمارية الزراعية في العام ذاته، مشروعين، مقابل 30 مشروعًا عام 2009.

كما تراجع حجم الاستثمارات في القطاعين المشار إليهما آنفًا، بالتزامن مع تراجع ترتيب سورية، في مؤشر ممارسة نشاط الأعمال، من الدرجة 147 عام 2013إلى المرتبة 165 عام 2014، وحساب هذا المؤشر يعتمد على 10 بنود، هي: بدء النشاط التجاري، استخراج تراخيص البناء، الوصول إلى الكهرباء، تسجيل الملكية، الحصول على الائتمان، حماية المستثمرين، دفع الضرائب، التجارة عبر الحدود، إنفاذ العقود، تصفية النشاط التجاري.

ومن المؤكد، كما يقول الخبير الاقتصادي بسام الخاني، أن لجوء النظام إلى الحرب في رده على احتجاجات الشارع “أكثر الخيارات خطورة على البلاد”، وتدهور الوضع الأمني، وانتشار الفساد، وشيوع عمليات التشبيح والسرقة و”التعفيش”، التي امتهنتها ميليشيات النظام، أسهمت -إلى حد بعيد- في هروب الرساميل الأجنبية والوطنية من البلاد، وساعدها في ذلك، تحول الاقتصاد برمته إلى اقتصاد استهلاكي مكشوف، وفي أعقاب تراجع نسب النمو، وإبرام النظام اتفاقات تجارية ومعاهدات ثنائية، مع روسيا وإيران، لتوريد الطعام والدواء لمن تبقى من السوريين داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام.

وأضاف لـ (جيرون): حتى المصارف الخاصة أحجمت عن تمويل أي نشاط إنتاجي استثماري للقطاع الخاص، أو خدمي، كي تتجنب التعرض لأي خطر على استثمار أموالها، في الوقت الذي تعاني فيه البيئة الاستثمارية من مخاطر أمنية واقتصادية.

في السنتين الأخيرتين، وبعد خروج كثير من المشروعات الاستثمارية والمنشآت الإنتاجية عن الخدمة، وانهيار قطاع الإستثمارات، أحد منافذ دعمه، لم يبق أمام نظام الأسد من خيارات متاحة على المستوى المالي، لإدارة صراعه العسكري مع الشعب، سوى الاستعانة بـ “هيئة الاستثمار السورية”، وهي هيئة حكومية، لتقديم خطاب محفز يُقنع السوريين بتحويل مدخراتهم إلى استثمارات، بذريعة أن “ادخار الكتل النقدية الفائضة، وعدم استثمارها، يُعرّض قيمتها إلى التناقص، بوصفها كتلة مجمدة” بحسب مديرها العام.

مع ذلك، لم يجد الخطاب الذي استخدمته الهيئة كنوع من تجميل الصورة في أعين المواطنين لإدارة أموالهم بالصورة المخطط لها، من يقتنع به على مستوى الطبقة المستهدفة، بل وتهكم عليه أحد وزراء الإقتصاد في إحدى حكومات الأسد، عبر تصريح أدلى به لصحيفة محلية قال فيه: من حيث المبدأ، يجب في المجال الاستثماري محاولة جذب أبناء البلد، ولكن يجب عليك أن تكون مقنعًا في مناخك الاستثماري لأبناء بلدك، قبل أن تفكر في إقناع الآخرين.

كان المزاج السوري، حتى في المدن الخاضعة لسيطرة الأسد، أشبه برد صادم. فقد فضّل 96 بالمئة، من عينة خضعت لاستطلاع أجرته إحدى المجلات المتخصصة، الاحتفاظ بالمال وفق مبدأ “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، على استثماره. في حين فضّل 95 بالمئة استثماره خارج البلاد. وعلاوة على ذلك، فقد أظهر الاستطلاع أن نسبة 73 بالمئة من العينة، لم تسمع إطلاقًا بهيئة الاستثمار السورية، وأن الـ 27 بالمئة المتبقية سمعت بها عن طريق التلفاز أو صديق، أوعن طريق الإنترنت؟

اليوم ليس بوسع السلطة التي تحكم سورية بالطائرات والدبابات، أن تفصح عن رد فعلها، على الصدمة التي تلقتها، ومن جمهورها في المناطق الآمنة كذلك. فغياب الثقة، رد فعل معقول من الناس، على اقتصاد يعمل لمصلحة القلة، ولا يعمل لمصلحة الأغلبية. كما تقول “ويني باينيما” المديرة التنفيذية لمنظمة” أوكسفام “الدولية للإغاثة في بريطانيا، وأضافت: حينما يسيطر الأغنياء على السلطة السياسية، تفقد الجماهير الثقة في الحكومة.

لقد اعتَقَد الأسد، أن روايته عن المؤامرة، وحربه ضد الإرهاب، سوف تقنع من هم تحت سلطته، ولن تتغيّر صورته في أنظارهم. وغاب عن ذهنه، وأذهان شركائه، أن الذين فرض حكمه عليهم بالقوة، قد أدركوا وعيهم، وتأكدوا أخيرًا من أن منظومة السياسات التي يروّج لها لا تعمل اليوم لمصلحتهم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق