مقالات الرأي

مراجعة نقدية لمسيرة التيارات السياسية العربية

احتلت القضايا الكبرى، أو التي عُدّت أكذلك، أي قضايا الوحدة والاشتراكية والتقدم والتحرير، أو الصراع ضد إسرائيل، المجال السياسي في المنطقة العربية، ولا سيما في المشرق العربي، طوال العقود السبعة الماضية، أي في حقبة ما بعد الاستقلال، من دون أن ينجز شيئًا مهمًا أو محسوسًا في أي منها.

المشكلة في هذه القضايا، أولًا، أنها كانت كبرى؛ لأنها قضايا سياسية فوق وطنية؛ أي لا علاقة ملموسة أو مباشرة لها في حقول الحقوق والصراع على السلطة والمكانة، بقدر علاقتها بحقول التلاعب والمخاتلة والمواربة. وثانيًا، أنها لم تكن هذه القضايا محور عمل الحكومات، فحسب، وإن كان ذلك نظريًا، إذ هي كانت أيضًا محور عمل التيارات السياسية العربية السائدة، القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية التي باتت تسوّغ نفسها بها، على طريقة الأنظمة. وثالثًا، أن التيارات المذكورة، بانشغالاتها هذه، كل بحسب أيديولوجيتها، لم تعط الاهتمام الملائم لقضايا المواطنة والمجتمع والحقوق والدولة، وهو ما وسّع الهوة بينها وبين مجتمعاتها، وأضعف صدقيتها ومكانتها في مجتمعاتها. ورابعًا، إن هذه هي القضايا التي انشغلت أو تغطّت بها الأنظمة الاستبدادية العربية، تفّسر عطف التيارات القومية واليسارية والعلمانية عليها ودفاعها عنها، على نحو ما نشهد هذه الأيام. خامسًا، للأسف، فإن التيارات المعنية، أي القومية واليسارية والإسلامية والعلمانية (التيار الليبرالي لا يكاد يُلحظ)، وعلى الرغم من كل إخفاقاتها إلا أنها لم تُقْدِم على أي مراجعة نقدية لمساراتها هذه، أو لأفكارها الأساسية عن القضايا الكبرى، بحيث اعتراها التكلس، ودبّ فيها الوهن، وأخذتها الشيخوخة.

معنى ذلك أن التيارات السياسية العربية، القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، عاشت ردحًا طويلًا من الزمن على قضايا، ومشروعات، محاربة الصهيونية والإمبريالية، والدعوة لتحقيق الوحدة العربية، والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، أو الدولة الإسلامية، بيد أنها لم تنجز شيئًا ملموسًا في أي منها، بل إن هذه القضايا اعتراها التآكل، بعد أن استهلكت في إنشاءات -فحسب- لا تقدم ولا تؤخّر.

هكذا جاء “الربيع العربي” يتيمًا، ومفاجئًا، وخاليًا من السياسة تقريبًا، وعلى شكل انفجار أطاح كل شيء، المفهومات والأحزاب والسياسات والمجتمعات والأنظمة والدول، (ربما باستثناء الحالتين: المصرية والتونسية).

المشكلة تكمن، على الأرجح، في أن التيارات السياسية العربية لم تشتغل في السياسة، بقدر اشتغالها في الأيديولوجيا، وهذا ينطبق على أصحاب الأيديولوجيات السماوية والأرضية. وأن هذه التيارات لم تشتغل بالسياسة بوصفها تخص معاش البشر، وتدبر أمورهم الحياتية، في العمل والتعليم والصحة والعلاقة مع السلطة/الدولة، وشكل تنظيمهم لعلاقاتهم في مجتمعاتهم، وطريقة إدارة أحوالهم، بقدر اشتغالها على القضايا العامة، التي لا تحتاج إلا الى شعار، أو بيان، أو مهرجان خطابي.

فوق كل ذلك يلاحظ أن معظم التيارات المذكورة، في غالب الحالات، كانت فضلت الاشتغال بالسياسة تحت سقف الأنظمة الموجودة، للوجود فحسب، بدلًا من التطلع إلى مراكمة عمل سياسي حقيقي. اللافت، أيضًا، أن التيارات المعنية لم تفتح مناقشات جادة ومسؤولة في ما بينها، للتوافق على مفهوم المواطنة، ومعنى دولة المؤسسات، وحول القانون والدستور، والأشكال الأنسب للديمقراطية، وعلاقة الدولة بالسلطة، وحدود السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية. وبالأساس، فقد سكتت هذه التيارات جميعها عن غياب مفهوم مكانة المواطنة في الواقع العربي، بالتلازم مع غياب مفهوم الدولة، فقد كانت مشغولة أكثر بالتصارع مع الإمبريالية والصهيونية، في البيانات والمهرجانات.

هذا العرض يفيد بأن التيارات أو الكيانات السياسية العربية أضاعت سبعة عقود من التاريخ، أي: إن ذلك لا يقتصر على الأنظمة التي أكلت أعمارنا، وبناء كيانات سياسية جديدة لا بد أن يحدث بالقطع مع التجربة الماضية، أي بناها وشعاراتها وأيدلوجياتها.

في هذا الإطار أعتقد أن هذا المسار، الذي أضاع سبعة عقود من التاريخ، من الأنظمة والتيارات السياسية السائدة، يفترض المراجعة والنقد، على الأسس الآتية: أولًا، القطيعة مع التجربة السياسية القائمة على التمييز بين التحرير والحرية، إذ يكثر الحديث، وإن كان حديثًا فحسب، عن التحرير في حين يقل الحديث عن الحريات. وإذ يكثر الحديث عن استعادة الأرض، في حين لا يجري أي حديث عن استعادة المواطنة، والإسهاب في الحديث عن الجماهير في حين يندر الحديث عن الشعب، أو قتل فكرة الشعب. ثانيًا، هذا يفترض، أيضًا، القطع مع فكرة العنف، أو فكرة التغيير بالسلاح، وضمن ذلك القطع مع فكرة الصراع المسلح بوصفها الطريق الوحيدة والحصرية من أجل التغيير. واضح أننا نقصد أن هذه الفكرة هي نتاج التجربة الجزائرية ثم الفلسطينية، علمًا أن ثمة تجارب عديدة، في الكفاح ضد الاستعمار أو ضد الاستبداد، انتهجت الكفاح الشعبي للتغيير السياسي، ويأتي ضمن ذلك تجربة الثورات البريطانية والأميركية والتخلص من الاستعمار في الهند، وتجربة إنهاء النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وحتى التجربة الاستقلالية العربية من سورية إلى مصر إلى تونس والمغرب، وصولًا إلى إيران ذاتها. مشكلة الصراع بالعنف او بالكفاح المسلح أنه يستبعد الكفاح الشعبي، وأن عدواه تصيب المجتمع الذي يخضع للاستعمار، بحيث يصبح العنف هو الطريقة لحل القضايا الخلافية بين الفصائل التي تصارع الاستعمار، فضلًا عن ان هذا الشكل غالبًا ما يحرف الثورات أو يوظفها في خدمة الدول التي تؤمن الدعم المادي والتسليحي للفصائل. ثالثًا، إن الموضوع الأساس لأي تغيير يفترض أن يتأسس على مفهوم المواطنة، بأقانيمه الثلاثة: الحرية والمساواة والاستقلالية، فمن دون ذلك لا يمكن التأسيس، لا لدولة، ولا لمجتمع، بمعنى الكلمة، ولا لديمقراطية.

مقالات ذات صلة

إغلاق