في حي الصليبة، أشهر أحياء اللاذقية، وبينما كنت جالسًا على الشرفة المطلة على الحي، سمعت صوت صراخ بعيد، ثم بدأ الصوت يقترب ويشتد: الله، سورية، حرية وبس. لم أصدق ما سمعت! هممت أن ألقي بنفسي بين الجموع فرحًا! نزلت ككرة تتدحرج على الدرج من الطابق التاسع، على الرغم من وجود المصعد الكهربائي إسراعًا في الوصول والمشاركة مع الشباب، وبدأت الأعداد تتزايد وقوات الأمن والمخبرون يرصدون ويصورون الجموع، إلى أن بدأت قوات الأمن بضرب الناس بالهراوات لتفريقهم، ثم باستعمال الرصاص الحي ليسقط ثلاثة شهداء، وترتفع معه نبرة الشعارات وحدّتها في أوساط المتظاهرين، أتذكر أنني كنت أمشي بينهم وأردد هتافاتهم إلى أن هتفوا بشعار (الشعب يريد إسقاط النظام). وقفت عندئذ جامدًا شاردًا جبانًا، فعزيمتي لم تكن تقوى على هذا الشعار، وأنا الذي اكتويت بنار النظام ومخابراته. شاركت في أغلب المظاهرات لكنني لم أستطع مسايرة الشباب في شعارهم هذا، فقد كان يعني لي أن سورية سوف تُحرَق من البحر إلى النهر، ولن يبقى فيها حجر على حجر وهو ما لم أُخْفِهِ عن المحقق عندما سألني: هل أنت مع إسقاط النظام؟ فأجبته: ربما إن قلت لك الآن لا، ستفهمها جبنًا كوني الآن متهمًا بين يديك. ولكن نعم، أنا لست مع اسقاط النظام! فمن لا يعرفكم يجهلكم، ويجهل أنكم لن تتركوا هذا الشعار ليتحقق قبل أن تحرقوا سورية ومن فيها. كان ذلك في 25 أيلول/ سبتمبر 2012 في قبو فرع الأمن السياسي.
أحيانًا لا يمكن تفسير الجبن من خلال شخصية الجبان، بقدر ما يُفهَم بفهم ما يخاف منه الجبان، فنظام كهذا لا يمكنك ألا تخافه قبل 2011 وربما بعدها.
أغلب المعارضين التاريخيين لهذا النظام، كانوا جبناء يوم رضوا بتوريث السلطة من ديكتاتور متوحش إلى ولده الطبيب القادم من بلاد الحريات والإنسان، لقد كانوا يومئذ جبناء وشرفاء وطنيين في آنٍ معًا حيث انحازوا إلى الأمل بالتغيير والانتقال نحو الديمقراطية، وإنْ تطلب ذلك تجرع كأس الذل رضىً بالتوريث للحؤول دون إحراق البلد، وإغراقه في فتن وتصدعات اجتماعية كبيرة، فشخصيات سورية معارضة معروفة لم تكن جبانة، بقدر ما كانت مدركة لطبيعة هذا النظام وصعوبة الفصل معه بين السياسة وبين حكم العائلة، وقد جعلت التدرج في التغيير أملها نحو الديمقراطية قبل 2011، الأمل الذي قتله الطبيب مع ملاحقة أعضاء إعلان دمشق.
لو حللنا انقسام المعارضة التاريخية إلى ما سمي معارضة الخارج (المجلس الوطني ثم الائتلاف) ومعارضة الداخل (هيئة التنسيق أو الهيئات التي تشكلت لاحقًا) سنجد أن أساس هذا التباين والانشقاق في مواقف المعارضة – إن أحسنا الظن في نيات بعضهم – هو المعرفة المشتركة بطبيعة نظام الأسد.
ففريق يعرف جهنمية النظام ووحشيته واستحالة تغيير سلوكه أو اصلاحه، وقد تجرع كأس السم مرة عبر قبوله بالتوريث المذل، ولذلك؛ لم يكن من خيار إلا استمرار الثورة، مهما بلغت التضحيات، فهي أمل السوريين الأوحد لرؤية سورية أفضل من دون آل الأسد.
فريق آخر – يمكن أن نحسن الظن في موقفه بداية – آثر مبدأ الإصلاح على مبدأ الثورة، لما يعرفه أيضًا من طبيعة النظام والثمن الباهظ الذي يمكن أن يدفعه السوريون، فيما لو أصروا على إسقاطه بكل أجهزته ومرتكزاته.
هذه الرؤية المشتركة بين الطرفين، تعطي مؤشرًا إلى الطبيعة الاستثنائية المتوحشة للنظام، ما يجعل التنبؤ صعبًا بما يمكن أن يفعله بالبلد والشعب، وقد فعل ما لم يعد بالإمكان معه أخلاقيا و إنسانيًا قبول أنصاف الحلول أو حتى تقاسم السلطة كما يروج اليوم، فالنظام الذي طرح شعاره الجهنمي (الأسد أو نحرق البلد) يدرك تمامًا بعد إحراقه البلد أن المنطق الأرسطي يقتضي أنه (لا أسد) أما أن يعدّل الشعار فيصبح (الأسد و نحرق البلد) و يصاغ مجددًا عبر آليات التفاوض في جنيف أو غيرها فهذا لا يعني أن المعارضة تجرعت كأس السم مرتين فحسب، بل يعني أن الشعب السوري تجرع كأس السم الأبدي وأن الصخرة الملعونة لن تنزاح عن ظهر سيزيف السوري.
أصبح ضروريًا اليوم – وقد أدركنا أن هناك معرفة ظاهرة، أو مبطنة، عند كل أطراف المعارضة الداخلية والخارجية بحقيقة هذا النظام، وما فعله وما يمكن أن يفعله لاحقًا – أن يكون هناك حدّ أدنى من الأخلاقية السورية الثورية الإنسانية، وحدّ أدنى من الوفاء لشهداء سورية وأطفالها الذين قضوا تحت الركام، يتمثل بالإصرار على رحيل الأسد من السلطة وتقديمه ومن معه من كبار المجرمين بحق السوريين إلى محكمة جرائم الحرب الدولية.
يعلمنا التاريخ أن العدالة هي الخطوة الأولى في الاستقرار الاجتماعي، وأن غيابها قانونيًا سيجعلها تتحقق يومًا ما طبيعيًا، وقد تكون أعلى كلفة وأشد مأسوية في يومٍ آتٍ ولات حين مناص.