في كلمته الختامية لفاعليات الدورة التاسعة لمهرجان المسرح العربي التي أقيمت في دولة الجزائر، صرّح الأمين العام للهيئة العربية بالقول: لا يجوز فصل الفني عن الأخلاقي في المسرح، وللوهلة الأولى سيخيّل لنا أن المقصود بذلك، ما هو إلا ضرورة يمليها علينا راهننا المغمّس في خيام الدم والموت الأصوليين، ما يجعل من مهمّة الفن اتخاذ دور تهديمي، يقوّض ثقافة الظلاميين العائدة من أزمن سحيقة، والمنبتّة في أوصال هشاشة الحداثة نفسها، كأن يتّجه الفعل المسرحيّ إلى مساءلة المحرّم ذاته، ولا سيّما من حيث جوانبه الدينيّة والجنسيّة، إذ لا يخفى علينا اليوم أنّه جرى تشغيل ما اصطلح عليه المفكّر السوري “صادق جلال العظم” بذهنية التحريم، إذ عمد الوحش الارهابيّ إلى صيد كلّ ما له صلة بالجسد، وتحريره من السلطة الأخلاقيّة، والزجّ به في خانة التكفير والقتل، بل وتحوّله إلى جهاز للمراقبة والمعاقبة، ما جعل عدواه تنتقل مثل الفيروسات في النسيج الاجتماعيّ، ولكن على عكس ما ننتظر، فإن المقصود بتصريح الأمين العام للهيئة، ما هو إلا ضرب من ضروب وضع حدود وخطوط حمراء على الفنّ ألا يتجاوزها.
لم يكن الأمر متعلّقًا بتلك الضجّة التي حدثت بعد عرض مسرحيّ عراقيّ، حمل عنوان “يا ربّ” لصاحبه “عليّ عبد النبيّ”، جسّد من خلاله أحد الممثلين شخصية النبيّ موسى، حتّى أنّ قراءته -في ما بعد- توّجت بآراء جدّ متنوعة ومختلفة، كانت في معظمها رافضة وغاضبة، بل إنّ ارهاصاته الأولى عادت إلى فاعليات الدورة الثامنة لمهرجان المسرح العربي الذي احتضنته دولة الكويّت ونظّمته الهيئة العربية. فقد شُنّت حملة اعلاميّة كبيرة في الأوساط الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعيّ، ضدّ بعض العروض المبرمجة في تلك الدورة، وفي إثرها تُّهم وزير الإعلام الكويتي “سلمان الحمود الصباح” بمرور تلك العروض من دون أن تخضع لأجهزة الرّقابة الكويتية، ما يوحي بأنّ عمل لجنة الاختيار للهيئة العربية، لا يتعدّى حدوده الشكلية، في نظر جملة من أعضاء البرلمان الكويتي. وعلينا ألا نبتئس؛ فقد تقدّم أكثر من ثلاثين نائبًا لاستجواب وزير الإعلام، مستندين في ذلك إلى مجلّة المهرجان، وبعض المقاطع التصويريّة لتلك العروض المتّهمة بالإساءة إلى المجتمع والتقاليد في دولة الكويّت، ما وضع هذا الوزير محلّ إدانة من جهة، ودفع الأمين العام للهيئة إلى مثل ذلك التصريح في ختام فاعليات الدورة التاسعة المقامة في الجزائر، من جهة ثانية.
استند البرلمان الكويتيّ في عمليّة إدانته وزير الاعلام إلى مسرحيّة “برج الوصيف” التونسيّة وبعض المسرحيّات الأخرى، بما تضمنته من مشاهد حميميّة، وأخرى تبدو فيها أجساد الممثلين عارية، ما يؤكّد أنّ رؤية نوّابه إلى الفنّ، قائمة على أساس أخلاقيّ بامتياز، يحشر الفنّ المسرحيّ في حظيرة العقائد المذهبيّة والدينيّة، ويجرّم إقامته في محور الحرّيات، كما يزجّ بالجسد في حريم المدنّس، ويجعل من خشبة المسرح منبرًا لتأييد السّائد الاجتماعي والعرف الأخلاقي، لا ذلك الفضاء الذي يهدف إلى التشكيك في المسلّمات ويهدف إلى احداث خلخلة في الأنظمة القائمة ووسيلة للتغيير. إنّ قدر الفنّ المسرحيّ منذ نشأته أن يكون ذلك المارد الذي يسجّل محن العصور، مساءلةً ومواجهةً، بوصفه ضميرنا الأنطولوجي المحض، وبوصفه ذلك السلوك الذي يفضي بنا إلى عقد رحلة نحو التألّه، بعد أفول الإله كسلوك “ما بعد ديني” بعبارة الفيلسوف “فتحي المسكيني”. أجل فقد مات إلهنا مثله مثل الاله المسيحيّ، منذ أن صار سجينًا في بيارق موت تحملها أكفّ حرّاسه، من القتلة الذين لم يتورّعوا في التشويش على كلّ حراك ثوريّ في بلداننا، ولم يعد لنا غير إله واحد علينا تشغيله الآن في الحقل المسرحيّ: إنّه هذا السيّد ديونيسيوس، ملك الكروم وربّ الخصب، أو لنقل إنّه آخر قطرة من فيض الأمل والحبّ في أزمنة النّار والحديد، ولن نجده إلا في تخوم الفنّ.
لقد وصفه المسكيني في كتابه “الهويّة والحرّية” بالقول: “ولكيلا نبتئس كثيرًا. فهذا الاله ليس يونانيًا في أصله القديم. إنه قادم من الشرق! وعلى الأغلب هو قد ظل “إلها طفلا”، بل حكم عليه بالموت مشويًا كقربان بائس. إنه بلا ريب إله شهيد”، وعوض أن نتّجه إلى كسر المغالطة التي تدعو هويته اليونانية، نحن الآن أسرى تلك المقولات التي تدّعي الأفضليّة والتفوّق الغربي في الفنّ المسرحيّ، والأنكى من ذلك، نحن لا يخلجنا الآن قتل الجسد بحجبه وازدراءه والزجّ به تحت عباءة دينيّة وأخلاقيّة، لا ترى فيه غير عورة وجب شطبها، ما يجعله على الرّكح المسرحيّ قربانًا خجولًا، عاجزًا كلّ العجز عن تحرير إلهه أو الحلول في تخومه، إذ لا يتعدّى سلوكه الجانب الأخلاقيّ، فنتخلّى -في حالة كهذه- عن المسرح من أجل نمط آخر من العيش والبقاء.
أن يطيح المسرح برجل السياسة فهذا أمر يوحي بقدرته الخارقة على التغيير، ولكن يا لوطأة السخرية: إنّ عمليّة شطب منصب وزير الإعلام الكويتي من عدمها لا تصبّ في حساب الفعل المسرحيّ، بما هو فعل يهدف إلى التثوير، وإنّما تعود -في جانب منها- إلى تحميل هذا الفنّ وظيفة غير وظيفته الطبيعيّة، وذلك بجعله حارسًا أمينًا للمنظومة الأخلاقية السائدة، أو محض آليّة لتصفية حسابات سياسيّة، كما لو إنّه يتحرّك في شريعة مذهبيّة ودينيّة صرفة، غير تلك التي تحمل “جينة” إلهه ديونيسيوس، هذا الذي يُنفَى الآن من حقول المسرح، وكأن لا مهمّة له غير أن يعود بدوره إلى جذوره الأولى آكلًا للحم البشر، ومشرّعًا لرائحة الشّواء، إذ “يتحوّل الوجود إلى ضرب من الصيد المفتوح أو القرم البدائي، نحو كلّ ما هو لحم، فيختلط الحيوان والبشر والآلهة في سكرة أوموفاجية، حيث يؤكل اللحم نيّئًا بحسب تعبير المسكيني.
نعم، إنّ وجودًا الآن شبيه جدّا بذلك الوجود الوحشيّ القديم، حيث قاعات المسرح لا يمكنها أن تحفل بغير السياسات الإنتاجية للفعل المسرحيّ ومعارك السياسيين وأشكال المراقبة وضرورات تقنينها وتنظيمها، بينما تظلّ السّاحات العامّة مسرحًا للقتل، وكرنفالات محافل الدمّ، بشكل موغل في التوحّش، لا يختلف عن نظيره القديم إلا من حيث الشكل، وتشغيل المقدّسات تشغيلًا مفرطًا في المغالطات.