إنّ إدمان الفيس بوك والواتس أب، وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي يُمكن عدّه من أكثر أنواع الإدمان شيوعًا في القرن الواحد والعشرين. والملاحظ أنّه منتشر انتشارًا أكبر في أوساط المهاجرين، فغالبًا ما تدفع حالة العزلة الاجتماعيّة الّتي يعيشها المهاجر، وصعوبات تعلّم اللغة والاندماج والتواصل مع الآخرين، إلى الهروب من العالم الحقيقيّ، والّلجوء إلى العالم الافتراضيّ حيث العلاقات الاجتماعيّة مُتاحة وأكثر سهولة. وكما يقول المفكر الفرنسي، جان بودريار، لقد تحوّل الناس عبر الحيّز الافتراضي الّلامُتناهي إلى مجموعة من النصوص والصّور والوثائق والأصوات والرسائل الوافدة، ولقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي تحوّلات جذريّة في ملامح حياتنا اليومية الّتي تهاوت فيها الحدود بين المحليّ والعالميّ.
وعلى الرغم من أنّ هذه الوسائل فتحت آفاقًا جديدة أمام البشر؛ لاكتشاف العالم الاجتماعي ولتفعيل طاقاتهم المتوفرة وتوجيهها للبناء والإبداع، وزيادة مجالات المعرفة، وقدرتهم على تقبّل الآخر وتقبّل التغيير، إلاّ أنها -في الوقت نفسه- تُشكّل تهديدًا قويًّا بتقويض العلاقات والقيم الاجتماعية. فعلى الرغم من أنّ المهاجر يتواصل -عبر هذه الوسائل- مع غيره، ويتولّد لديه شعورٌ بأنّ حياته الاجتماعيّة غنيّة، وتلبّي بعض حاجاته النفسيّة الاجتماعية الضرورية، كحاجة الانتماء إلى الجماعة والأسرة، وحاجة تقدير الذات وتقدير الجماعة، والإحساس بالمحبة والاهتمام، إلاّ أنها سببٌ -أيضًا- في عزلته وقلّة تفاعله مع المجتمع المُضيف، وعائقًا أمام نجاحه، وخاصّةً حين تتحول إلى سلوك إدماني. وهكذا، على سبيل المثال لا الحصر، تحوّل الفيس بوك من وسيلة اتّصال إلى وسيلة انفصال، اقتحمت الحياة العائلية كذلك، وقللت فرص التواصل ضمنها.
صحيحٌ أن الفيس بوك هو -تقريبًا- النافذة الوحيدة للتواصل مع الوطن الأم، بالنسبة إلى المهاجرين، وصحيح أنّه اختصر الزمن والمسافات، وأعطى فرصة التعبير للجميع وبحريّة، وصحيح أنه وفّر فرصة “للذكاء الجماعي”، على حدّ تعبير مصطفى حجازي، أي: المشاركة في قضايا الكون، وبناء رأي عام محلّي وعالمي، وتشكيل جماعات ضغط؛ لمساندة القضايا العادلة، والتأثير في القرارات بشأن هذه القضايا، إلّا أنّه يظل عالمًا افتراضيًا، يُعاش من خلف الشاشة، والحقيقة الفيسبوكيّة حقيقة افتراضيّة؛ ما يفتح الأبواب لكلّ أشكال الإسقاط والاستعارة والتماهي وحبّ الظهور وتسويق الذات والإنكار والتسويغ والارتكاس والانتقائيّة في اختيار المعلومات. ولقد تحوّل الفيس بوك إلى وسيلة للهروب، ورهاب اجتماعي، واغتراب نفسي، وبات هو البيت والمأوى، وهو الصّديق والأسرة، ومنصّة التعليم والّلعب، وهو الفرد والمجتمع.
والخطِرُ في استخدام الفيس بوك سهولة تحوّله إلى سلوك إدماني، وخاصّةً في حالات الملل والفراغ والوحدة، وهكذا بات بعض المهاجرين يقضون ساعات طويلة في استخدام الإنترنت، وبطريقة لافتة للنّظر، مع ما ينطوي على ذلك- في كثيرٍ من الأحيا-ن من حاجةٍ إلى العزلة عن الآخرين في خلال فترة الاستخدام، وهذا ما أطلق عليه الباحثون في هذا الصّدد ما يُعرف بـ “انطوائية الكمبيوتر“.
ولاستخدامات الفيس بوك أهداف متنوّعة، بعضها واعٍ وآخر غيرُ واعٍ، فهناك من يستخدمه لتحقيق أغراض علميّة، ونشر أفكار وآراء ثقافيّة أو سياسيّة، وبعض آخر لأغراض الترفيه والتسلية، وهو الأكثر شيوعًا، مثلما يبدو. وهناك من يستخدمه للدردشة في أموره الخاصة، مع ذكر تفاصيل؛ ما يؤدّي -أحيانًا- إلى فضائح “فيس بوكيّة”، إن جاز التعبير.
وهو، أيضًا، مكانُ لتفريغ الطاقات والهموم، ومتنفّسٌ لحالات الاكتئاب الّتي تلازمكثيرين من المهاجرين، ولكن المُتنفّس الافتراضيّ -هذا- انتقل في دورة انعكاسيّة من تفريغ شحنات سلبيّة؛ من أجل الراحة في التعبير عن الحالات النفسيّة، إلى معزّز سلبي للحالات الشعوريّة السّلبيّة، ومعزّز سلبي للحالات الاجتماعية، كالطلاق العاطفي، والتفكّك الًاسري، والاغتراب، والشّك، وفقدان الثقة، والنبذ الاجتماعي.
وهناك -على الجانب الآخر- من يستخدم الفيس بوك للسّرقة والنصب والاحتيال، أو لنشر الإشاعات والأكاذيب، ووسيلةً سهلةً للتشهير وتشويه السمعة، وللإضرار بجهة معيّنة، أو للتجسّس وتجنيد المخبرين. ولكن إحدى أهم الظواهر الّلافتة للنظر في الفيس بوك، أكثر من غيرها، هي “ظاهرة النجومية السّريعة“، ووهم النجاح السّهل الذي يدفع ببعض المهاجرين إلى الإفراط في استعراض الإنجازات، أو تضخيمها من خلال عمليّات الاستعارات الاختزاليّة، والإسقاطات النفسية، وعمليات التضليل غير المباشر في ما ينشرونه عن أخبارهم في بلاد المهجر، وكذلك صور يكون الهدف الحقيقي منها إيهام الآخرين بالنجاح والإبداع، وبهذه الطريقة تنهال عليهم المباركات والتبريكات والإطراءات والمبالغة في المجاملات (ربّما وبخبر نجاح في امتحان اللغة للمبتدئين أو بقبول جامعيّ، فإنّ بعض التعليقات تصف صاحب الخبر بالمبدع والمتميّز…) حتّى بات بعضهم يحسَب نفسه شخصيّةً معروفة، لها كينونتها وحضورها وشهرتها، وبتنا نرى -أخيرًا- في صفحات الشبكة العنكبوتية استخدام كلمات، مثل: كاتب وصحافي وشاعر ومبدع ومفكّر وباحث، أو فنان، كيفما شاء، وكيفما اتفق.
وفي الحقيقة، إنّ هذه النجومية الافتراضيّة السريعة، ليست سوى عملية استبدال واقع افتراضي جميل، يُعدّ مزيجًا من الواقع والخيال بواقع فارغ مؤلم. وهنا تبرز أكثر ملامح الانفصام الّتي يعيشها المهاجر المُدمِن على “مسرح الفيس بوك”، بحيث تكون له شخصيّتان: واحدة حقيقيّة، وأخرى افتراضية مختلفة عنها، ربّما بدرجة كبيرة. وتشير الملاحظات جميعها إلى أنّه ما إنْ يغيب هؤلاء النجوم عن هذا المسرح الافتراضي؛ تغيب تلك النجوميّة، وتلك الافتراضات، من شهرة وغيرها. إنّها نجومية الوجبات السريعة التي لا تعمّر طويلًا، شأنها في ذلك شأن كلّ ما هو سريع، على حدّ تعبير مصطفى حجازي.
القاسم المشترك بين جميع هذه الاستخدامات للفيس بوك هو ثقة عامّة الناس بهذا الموقع الاجتماعي، واستبعادهم -بوعي أو بدونه- احتمالات تعرّضّهم للخطر من خلاله، بحيث أنّهم يضعون تفاصيل عن حياتهم ومعتقداتهم ومشروعاتهم وعلاقاتهم، وينسون أنّ هناك على الجانب الآخر من يمكنه أن يستغلّ هذه التفاصيل؛ للإضرار بهم، أو بغيرهم.
(*) إشارة: هذا المقال جزء من بحث علمي بعنوان ” سيكولوجيا المهاجرين: استراتيجيّات الهُويّة واستراتيجيّات التّثاقف” نُشر في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.