ظهرت -في الآونة الأخيرة أخبار- وتحليلات تدّعي أن شقاقًا كبيرًا وقع بين إيران وروسيا حول سورية؛ تحليلات اعتمدت على حدوث خلافات على أرض المعركة بين الجانبين في سورية، وعلى بعض التصريحات السياسية المنتقاة.
افترضت التكهنات أن الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، سيجر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانبه، ويبعد روسيا من إيران، ليستفرد بها لاحقًا، بما قد يتجاوز العقوبات الاقتصادية إلى هجوم عسكري محتمل. لكن هل فعلًا هذه قراءات تحليلية موضوعية أم أمنيات وتكهنات؟
بدايةً، الاعتماد على التصريحات السياسية يجب أن يكون محايدًا وشاملًا، فهل وُضعت التصريحات الإيجابية المتبادلة بين روسيا وإيران جنبًا إلى جنب مع التصريحات التي تحمل نفسًا سلبيًا أو خلافيًا؟
معظم القراءات التي تتنبأ بالخلاف الروسي- الإيراني، كانت انتقائية في سرد التصريحات السياسية الخلافية؛ فلم نر تركيزًا إعلاميًا على التصريحات الواضحة الجازمة من الرسميين الصينيين والروس، الرافضة قرار ترامب بزيادة العقوبات الاقتصادية على إيران في بداية هذا الشهر، وتصريحات الناطق باسم الكرملين، دميترى بسكوف، عن استراتيجية علاقات روسيا بإيران.
ثانيًا، تسربت أخبار كثيرة عن خلافات تكتيكية بين روسيا وإيران على أرض المعركة في سورية، التي لا يمكن أن نصدقها جميعًا، لكن يمكن الركون إلى حدوث بعضها؛ من البديهي والحتمي أن العمل العسكري المشترك بين روسيا وإيران، ولأول مرة على الأرض، وبدون تاريخ من المناورات العسكرية المشتركة، سيؤدي إلى تصادمات على الأرض؛ فضلًا عن أن الوجود العسكري الإيراني في سورية -بغالبيته- يعتمد على مليشيات “ارتزاقية”، وهو ما لا يمكن لإيران أن تتحكم به تحكمًا تامًا؛ إضافة إلى أن النظام الإيراني، بنية وتيارات، ليس متفقًا على كل التفاصيل، سواء داخل أو خارج إيران؛ إذن؛ فلا يمكن الجزم بأن خلافات حكومتي روسيا وإيران استراتيجية في سورية، لأنهما واجها خلافات تكتيكية على الأرض.
ثالثًا، جرى البناء كثيرًا في استنتاج حرج الخلافات الروسية الإيرانية على التقارب التركي- الروسي، من باب حقيقة أن موقفي تركيا وإيران متصادمان في سورية. هذا الاستنتاج يهمل حقيقتين أساسيتين: الأولى أن علاقات إيران وتركيا ممتازة منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” للحكم، وكانت جيدة أو حيادية، قبل ذلك لعقود طويلة، سواء قبل أو بعد الثورة الإيرانية، ولم تعتورها أي أزمة كبرى حقيقية منذ الحرب العالمية الثانية. والحقيقة الثانية أن علاقات روسيا وتركيا وإيران بقيت في أفضل حالاتها منذ 2011 إلى خريف 2015، على الرغم من تناقض سياستيهما في سورية. بحسب السياق العام، فإن توتر العلاقات الروسية- التركية العام الماضي هو الاستثناء، وكان في المحصلة زوبعة صغيرة في فنجان وحسب، وإعادة التقارب التركي- الروسي داعم للعلاقات التركية الإيرانية- الروسية.
قد يقول قائل: إن ما ذُكر ليس حتميًا، ويمكن إعادة تفسيره بطريقة مختلفة، حتى إن بدا أضعف في الموازنة. من الأفضل العودة إلى الحقائق الأساسية التي تحكم علاقات الدول.
الحلف الروسي الإيراني الصيني حلف استراتيجي، لأنه حاجة أمن قومي وعسكري أولًا لكل هذه البلاد، ومنفعة اقتصادية كبيرة لهم على المدى الطويل. فهذه الدول الثلاث تقف منذ عقود طويلة في ساحة العداء والتوتر مع الغرب، وجود هذا العدو المشترك المخيف والضخم يفرض على هذه الدول التحالف. كما أن هذه الدول الثلاث تتشارك نفس الهاجس حول وسط آسيا، فكابوس أفغانستان ما زال مقيمًا، في المركز الجغرافي لديكتاتوريات وسط آسيا؛ إن المحافظة على استقرار هذه المنطقة، هو ضرورة أمن قومي وليس مجرد رأي أو مزاج زعيم. كذلك فإن منطقة بحر قزوين تشكل أمنًا قوميًا لإيران وروسيا وتركيا، والتنسيق والتفاهم بين هذه الدول ضرورة وحتمية لا مفر منها.
من ناحية ثانية، تمثل روسيا، بقوتها العسكرية الهائلة، مصدرًا عسكريًا أساسيًا للصين وإيران، وكلا البلدين يملك ما يكفي من هواجس أمنية؛ فالصين تستورد من روسيا 80 في المئة من عتادها العسكري، وإيران تستورد من روسيا والصين معًا 81 في المئة من عتادها العسكري؛ وفي نهاية 2016، أبرمت إيران صفقة بقيمة 10 مليارات دولار لاستيراد أسلحة روسية.
إضافة إلى ما ذُكر سابقًا، فالحقيقة المنسية في التحليل العربي السياسي، هي أن العلاقات بين الدول، وخاصة في العصر الحديث، تحتاج إلى بناء جسور الثقة، وهي عملية بالغة الصعوبة، وتحتاج سنين طوالًا لتأسيسها، وخسارتها لا يمكن أن تحصل إلا في حال انقلابات دراماتيكية داخل هذه الدول. كذلك فإن العلاقات الدولية لا تشبه علاقات القبائل التي تخضع لمزاج ورؤية زعيم القبيلة، وحكومتا روسيا وإيران ليستا بغباء الاستدارة 180 درجة؛ أن صورة الجالس بالبيت الأبيض قد تغيرت فحسب، فانعدام الثقة بين روسيا وإيران وبين الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، من الشدة والقوة بحيث يحتاج رأبه لسنين طوال من الجهد المضني.
إن القول بأن روسيا ستضرب بعرض الحائط مصالحها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية مع إيران، لأن ترامب عبر عن احترامه العميق لبوتين فحسب، هو قول خيالي لا يسنده سوى الأمنيات، وفكرة عبثية تقول: “كل شيء ممكن في السياسة”. والمراهنة على أن روسيا ستعمل ضد مصلحة النظام الإيراني استراتيجيًا في سورية، هو أيضا إغراق في الأوهام.
كذلك من المهم التنبيه إلى أن المراهنة أيضًا على أن “غضب” ترامب من إيران، سيكون في مصلحة دول الخليج العربي هو رهان خطِر غير محسوب استراتيجيًا؛ لأن ما ذُكر سابقًا هنا، وخلافات ترامب مع حلفائه الغربيين والصين وروسيا، يؤكد أن ترامب لن يتحرك ضد إيران تحركًا حاسمًا عسكريًا، ولا يملك ما يكفي لتحرك اقتصادي ضخم ضد إيران.
إن الرؤية الموضوعية للعلاقات الدولية، والصراع في السوق العالمي، هي الأساس المطلوب لأي محاولة إنقاذ لسورية مما هي فيه، والتعلق بالأوهام حول صراعات الأقوياء كان وما زال عامل هدم لأي محاولة إنقاذ في سورية.