“اعترفتَ في مقالك الأخير أنك تخفي حقيقة مهمة، لها تأثير كبير في الرأي العام، وهذا نص الاتهام”، يقول القاضي الذي يظهر أمامي بخمسة أوجه مختلفة.
- نعم أذكر ذلك، كتبت ذلك لأقول: إن الحياة تغدو عبثية، عندما يكون الموت عبثيًا، ولا قيمة للحقيقة.
- كيف تكون الحقيقة لا قيمة لها؟
- أي من حق الناس كتم الحقيقة.
- أنت تورط نفسك بشيء جديد.
- لا أبدًا، فأنا لم أذكر ذلك صراحة، فالتهمة باطلة لزوال الضرر.
- الحقيقة جميلة تصون حياة الناس.
- الحقيقة مقززة، وحياتنا تهدر كل يوم.
- أنت شاهد صغير فحسب، لا علاقة لك بهذا.
- سيدي، الحقيقة الوحيدة المفيدة لكلينا، هي أن أحترم محكمتكم. هذا سهل، سأحترم جدَّ محكمتكم، لكنك تريد تعقيد الأمور، وتريد معرفة حقائق لا فائدة منها. خذ مثلًا: زميل دراستي؛ انتقل من العمل في صفوف النظام إلى العمل طباخًا عند تنظيم خطِر، ثم هاجر إلى أقصى شمال الكرة الأرضية، كأنه لم يفعل شيئًا. لقد ضرب الحقيقة ثلاث ضربات موجعة.
- لكنها تبقى ناصعة كضوء الشمس.
- وإذا اختار أحد ألا يراها ولا يهتم لأمرها.
- يجب أن يفعلوا ذلك.
- أنا لا أعرف الحقيقة، إنه المتحدث داخل النص.
- ومن هذا المتحدث؟ ها قد بدأت تسير جيدًا.
- النص لا يحوي شخصيات محددة.
- كيف ذلك؟
- هذا شيء قديم، قصة بلا حدث، مسرحية بلا شخصيات، شعر بلا وعي، لا بد أنك سمعت بهذه التطورات القديمة.
- وإن كان النص لا يعرف، فأنت تعرف.
- عندما تقابل شخصًا آخر، يقابلك -أيضًا- شخص غريب كان أنت. الكتابة دائمًا عملية قتل بسيطة.
- وما علاقة هذا بالتحقيق.
- لا. فقد أردت أن أخبرك بموت المؤلف.
- أمعك شهادة وفاة؟
- لا.
- (ينظر في ورقة أمامه) أنت لم تقرأ رولان بارت، هذه قائمة قراءاتك في موقع good reads.
- ولكن أتابع أحد عشاقه يا سيدي.
- ما اسمك على twitter.
- سبارتكوس يا سيدي.
- (يضحك.. يعبث بجهاز اللابتوب) جميل، صفحتك بيضاء. لماذا تريد إخفاء الحقيقة؟
- ليس كل ما تحت الشمس جميلًا يا سيدي.
- (ينظر في المقال المشار إليه سابقًا، ويهمهم) “يتحدث مع حجر..” هل هو نحات؟
- نعم، أصبت، إنه نحات، ويصنع التماثيل، ولا يجرؤ على عرضها.
- أين هو؟
- في تركيا يعمل نادلًا في أحد المطاعم.
- فليعرض تماثيله في تركيا. إنها دولة علمانية.
- ليس لديه وقت لذلك، وتماثيله بقيت مدفونة -هنا- تحت الأنقاض.
- أتريدنا أن نبحث في أنقاض البلد كلها.
- هذا عملك يا سيدي.
- (يخرج ورقة ويضحك) زميل دراستك نال أكثر منك في مادة الإملاء.
- نعم صحيح كان هذا منذ سبعة عشر عامًا.
- إنها مدارس البعث الداعر.
- جعلتنا أغبياء يا سيدي.
- لماذا تكرر كلمة سيدي كثيرًا.
- إنها قافية رخيصة يا سيدي.
- لازمة.. لازمة.. لكنها ليست لازمة.
- امسكه يا سيدي.
- ماذا؟
- اقتله يا سيدي.
- من؟
- زميل دراستي.
- (يغضب بشدة).
- حسنا سأقول كل شيء، قول الحقيقة حق للجميع، وهو غير مصان، ولم يكن كذلك يومًا، فلماذا لا ندافع عن حق الشخص في كتمان الحقيقة.
- هذا يزيد الأمور تعقيدًا.
- بل قد يمنع استغلال الحقيقة من طرف مخادع، فالحقيقة لها وجوه.
- ومن يملك صلاحية هذه القرارات.
- كل شخص، يقول أو لا يقول، يدافع أو لا يدافع.. يضحك أو يحزن.. ينفجر أو ينتحر..
- حسنا أعطيناه هذا الحق، وهو قد أعطاك تفويضًا بالكتابة، كما قلت في المقال.
- لا. لقد أعطى التفويض للنحات.. بدأنا ننسى.
- والنحات في تركيا (يضرب على رأسه).
- إنه لا يريد إخفاء شيء، فقد صنع تمثالًا، وخاف أن يعرضه، لقد مسحتم الأرض بحقيقته.
- سؤال أخير.
- تفضل
- هل ستكتب مثل هذه الأشياء البغيضة ثانية.
- أبدًا يا سيدي، في الحقيقة أنا لست كاتبًا، وقد حدث الأمر بالصدفة.
- (ينزل من على المنصة، يضع يده على كتفي)، ألا ترى أنكم في أسوأ حال، ومع ذلك، لا تتعاونون، لا تبالون، لا تملكون وعيًا.
- هل تريدني أن أساعد ذلك الطباخ.
- لا، اكتب عن معاناتهم. تقول تحرياتنا أن لك قصائد تحت الأنقاض، وقد نجدها.
- لقد نسيت أمرها، الورق خائن كبير يا سيدي.. مهلًا.. أنت لست المسؤول، هناك شيء ناقص
- ماذا؟
- عقدة النقص.
- صحيح، أنا خريج أدب إنكليزي، ورمتني الأيام هنا. (يشير بإصبعه). أنت وجدناك مرميًا هناك.
- وهل أنت مسؤول عن كل شيء مرمي في الطريق.
- في هذه الأمتار الخمسة، نعم.. خذ هاتفك وجدناه في جواربك.
- فتشتم في جواربي؟
- جواربك جواربنا.. لا تقلق
- والآن هل أستطيع الذهاب؟
- بكل تأكيد.
- لا.. لا.. هذا ليس سهلًا، هناك أكثر من طريق على الحاجز.
ألم أقل لك؟ (يضحك) نحن لا نجبر أحدًا.