جلس رأس النظام السوري في مواجهة صحافي يُمثّل إحدى وسائل الإعلام الأجنبية، لينفي -جملة وتفصيلًا- تقريرًا مفصّلًا أعدته منظمة العفو الدولية، يوجّه أصابع الاتهام إلى النظام وأجهزته الأمنية وقضائه، بتنفيذ عمليات إعدام حدثت في سجن صيدنايا بين أعوام 2012 و2015، قدرتها المنظمة الدولية التي اعتمدت في تقريرها على شهادات ووقائع، بنحو ثلاثة عشر ألف عملية إعدام، بوسائل مختلفة، وبمحاكمات شكلية، لم تستغرق في بعض الأحيان دقيقة واحدة، كما جاء في التقرير الذي أثار عاصفة من ردود الفعل الغاضبة، ونعتقد أن تداعياته ستستغرق وقتًا قبل أن تطوى، ربما حال صدور وثيقة جديدة، أو تسريب جديد يكون أكثر فداحة من هذا التقرير الذي أطلقت عليه المنظمة تسمية “المسلخ البشري”، وإن كنا نعتقد أن مثل هذه التقارير تمثّل أوراق ضغط في أيدي المعارضة السياسية التي تتأهب لخوض جولة جديدة من المفاوضات من المقرر أن تستضيفها مدينة جنيف السويسرية، في حال أحسنت استخدامها طبعًا، ولا أظن أنا شخصيًا أنها ستفعل.
رأس النظام نفى المعلومات الواردة في التقرير بكل هدوء، ولم يبدِ أي تأثّر لدى سماعه لذلك الاتهام، فقد باتت لديه الخبرة الكافية لتجاوز جهاز كشف الكذب بسهولة، وصار قادرًا في كل مرة على القول إن الأمر لم يحدث وكفى، وليصدق من يصدق، فالأمر برمته لا يعنيه، ولن نبحر في تفاؤلنا لنظن أن تقرير “المسلخ البشري”، سيكون قادرًا على تغيير المعادلة على الأرض، أو على “جرجرة” مرتكبي تلك الجريمة التي وُصفت بجريمة إبادة جماعية، إلى محكمة جرائم الحرب، إلا في حال سقوط النظام والقبض على أولئك المسؤولين عن تلك الجرائم واحدًا واحدًا، سوى ذلك علينا أن نستعيد بشيء من الحسرة تفاصيل مجزرة الكيماوي التي ارتكبتها قوات النظام في غوطتي دمشق صيف العام 2013، وكيف خرج النظام منها “كالشعرة من العجين” كما يقال، بل إنه خرج أكثر قوة بعد أن توصل إلى صفقة قذرة مع الإدارة الأميركية آنذاك، وبرعاية روسية، فنجا من العقاب، وتبددت دماء الضحايا، ما بين عشرات المنظمات الدولية التي أكدت تقاريرها وقتئذ أن النظام يتحمل المسؤولية كاملة عن تلك المجزرة المروعة، ثم طوت تقاريرها، ونُسيت المجزرة ومرتكبوها وضحاياها، حينئذ قالت المعارضة السورية، ممثلة بقادتها البارزين، إن أيام النظام باتت معدودة، وإنه لن ينجو من فعلته، وخرج “فحولها” ليبشروا السوريين بأن يستعدوا لرفع إشارات النصر في ساحات دمشق، وقد دأبت المعارضة قبل ذلك التاريخ وبعده على تكرار تلك العبارات الحماسية التي تداعب خيال الجماهير الثائرة، وقد تضيق المساحة على ذكر الحوادث التي قالت فيها المعارضة إن أيام النظام باتت معدودة، ولا ضير من التذكير بما حدث في أعقاب تفجير خلية الأزمة في العاصمة دمشق، والحالة الهستيرية التي رافقت الحدث، وتبنته فصائل لم يكن أحد قد سمع بأسمائها، ثم تكشفت حقائق في أوقات لاحقة تظهر أن النظام نفسه قد يكون مسؤولًا عن عملية الاغتيال الجماعي تلك، لأسباب بعضها شخصي، وبعضها الآخر له علاقة بفتح الطريق واسعًا أمام جنرالات إيران؛ ليديروا العمليات العسكرية دون وجود قادة قادرين على مناقشتهم، أو إبداء وجهة نظر تخالف وجهة نظرهم. كذبت المعارضة هذه المرة أيضًا، وكذبت كذلك في أعقاب معركة فك الحصار عن مدينة حلب، أوائل آب/ أغسطس من العام الماضي، فقد لوحت المعارضة السياسية التي لم تكن تدري ما يدور على الأرض حقيقة بأن تلك المعركة سوف تقلب الموازين، وعلى النظام أن يبدأ بحزم حقائبه، وقد قلبت معركة حلب الموازين حقًا، ولكن لمصلحة النظام وداعميه، فخرجت حلب من مشهد الثورة، بعد ذلك بأشهر قليلة، وهي خاضعة الآن لاحتلالين: إيراني وروسي، فيما ضاقت الأرض بأهلها الذين انضموا إلى ملايين المُهجّرين والنازحين، ولا تستطيع المعارضة أن تُقدّم لهم شيئًا سوى أن تقول لهم: اصبروا، وهم صابرون سواء أطلب منهم أحد ذلك أم لم يطلب، فلا حل أمامهم سوى الصبر.
لا يمكننا أن نلوم المعارضة السياسية على فشلها؛ لأن المسألة السورية باتت محكومة بتوازنات إقليمية ودولية، وخرجت منذ أمد بعيد من الساحة السورية، تحديدًا منذ أن أطلق بعض المراهقين السياسيين، دون أن نتهمهم بغير ذلك، على إحدى الجمع إبان فترة المظاهرات السلمية الحاشدة تسمية “الحماية الدولية مطلبنا” أو “نريد حماية دولية” منذ تلك الجمعة المشؤومة ارتبطت الثورة السورية بخيارات المجتمع الدولي ورغباته، وتحولت من ثورة سورية ضد نظام ديكتاتوري مستبد إلى لعبة أممية، لكننا نلوم تلك المعارضة على استمرارها في حالة الفشل، وعدم قدرتها على حسم أمورها، والقول لجمهور الثورة، الذي لم يعد يصدقها في ما تقوله على أي حال، إن اللعبة أكبر من قدراتها، لكنها تحاول الوصول إلى شيء، أما أن تُقدّم الوعود بغير حساب، ثم تفشل في الوفاء بوعودها فهذا يسمى كذبًا، ولا يليق بمعارضة تمثل ثورة الكرامة أن تكون كاذبة.