فجّر تقرير منظمة “أمنستي إنترناشيونال”، ذكريات مُرة لكثير من السوريين الذين مروا على أجهزة الأمن المختلفة تسمياتها، ولكنها المرة الأولى التي يُنشر فيها تقرير عن إعدامات سجن صيدنايا بطريقة توصيف دقيقة، ومن المؤسف أن يكون هذا السجن جارًا للدير الذي يحمل اسم المدينة، ويبشر بالمحبة، ويدنسه سفاح سورية بقدميه؛ محاولًا أن يمنح اطمئنانًا كاذبًا لمسيحيي سورية.
وكانت الساحة الأدبية السورية شهدت قبل صدور هذه التقارير، ما يمكن تسميته بأدب السجون، فكانت رواية أرام كرابيت “الرحيل الى المجهول”، برحلته من مكان عمله في الحسكة، مرورًا بكل السجون الأمنية في سورية، وقضاء سنوات ليست بقليلة في سجن صيدنايا سيئ الذكر، ليستقر -لاحقًا- في سجن تدمر المرعب، ويقضي فيه باقي الحكم التعسفي، ولم يصدق بأن باب السجن سيفتح له ثانية، ليعود إلى مدينته التي أحب خابورها، وحرم من التمتع بإقامته فيها، بعد مشوار طويل دام 13 عامًا.
ما يقال عن الرحيل إلى المجهول، ينسحب إلى “القوقعة” لمصطفى خليفة، وقصائد فرج بيرقدار المستوحاة من فترة سجنه، وكذلك تجربة ياسين حاج صالح وأكرم صفدي وكثيرين غيرهم، مِمن مروا بسجون الأجهزة الامنية السورية.
تشير التقارير التي صدرت -أخيرًا- إلى مرحلة السفّاح الابن الذي فاق إجرام أبيه. ولو فتحنا ملفات القتل تحت التعذيب، في أيام الأب حافظ الأسد، لوجدنا أن القتل بالإعدامات، كان من أهم سمات السجون السورية، إضافة إلى الإعدامات الجماعية، مثل إعدامات سجناء تدمر عام 1980، إذ اصطاد جنود المجرم علي ديب هؤلاء كالعصافير، بعد ان اُطلق سراحهم ليهيموا في الصحراء، ويقتل منهم أكثر من 850 سجينًا، وهذه الأرقام متواضعة أمام الأرقام المخيفة في حماة زمن الأب.
اعترف العماد مصطفى طلاس في حديثه مع بعض الصحافيين الأجانب متباهيًا، بأنه كان يصادق بتوقيعه على أحكام إعدام تتراوح ما بين 150 إلى 200 مواطن سوري، وجريمتهم أنهم من الإسلاميين، وبالطبع كان العماد المثقل بالأوسمة، التي نالها لانتصارات وهمية في معارك لم يخضها، لا هو ولا رئيسه، مُغطى بالقانون 49 للعام 1980، إذ تخلص النظام الأسدي من معظم خصومه باسم هذا القانون. وهو قانون غير دستوري، ولم يعرف مثله إلا في الأنظمة الفاشية أمثال هتلر، وموسوليني، وبينوشيه؛ ولقد طالب السجين الحالي، غير المعروف مصيره حتى الآن، محامي حقوق الإنسان، خليل معتوق، بإلغاء هذا القانون؛ إذ “لا يجوز أن يُعدم أي شخص لانتمائه السياسي، إضافة إلى أن القانون 49 صدر في مناخ مختلف تمامًا، وكانت هناك أعمال عنف وتفجيرات، من أشخاص ومجموعات كان لهم علاقة بالإخوان المسلمين، وكان من الممكن محاكمتهم، بموجب قانون العقوبات السوري الذي توجد فيه مواد كافية تعاقب من يرتكب أعمال عنف”.
إذا كانت هذه هي جرائم الحرب، والجرائم ضد البشرية، فكيف يكون الاقتصاص من رأس النظام، وكل من شاركه هذه الجرائم؟ هناك قوانين في الدول الغربية تساعد في هذا الاقتصاص، فالقانون الإسباني مثلًا، يحتوي قوانين تعاقب كل من يثبت مشاركته بجرائم حرب وضد الإنسانية، ولنا في إصدار السلطات القضائية الإسبانية مذكرة توقيف بحق مجرم الحرب التشيلي الديكتاتور أوغستو بينوشيه الذي بقي سجينًا، وتحت الإقامة الجبرية لما يقارب العام في بريطانيا، ولم يطلق سراحه ليعود إلى التشيلي، إلا لأسباب صحية، ولم يتجرأ أن يذهب إلى أي مكان أخر في أوروبا، خوفًا من الاعتقال والسجن.
لم يبن لا حافظ الأسد، ولا ابنه، دولة مدنية، بل بنيا دولة إرهابية، فتحت السجون لمئات الآلاف من المواطنين، ليُقتل بعضهم تحت التعذيب، وآخرون بتعليق مشانقهم. يحول الروس في الوقت الراهن، دون سوق سفّاح قاسيون إلى محكمة الجنايات الدولية، ولكن لا بد من أن يأتي يوم يلاقي فيه مصير الإعدام.