هموم ثقافية

الحضارة… ذلك المرض النفسي

لم أعد أذكر أين قرأت، أن العاجزين في الفراش، يصنعون دائمًا الحروب. ربما في رواية أو مقالة ما، لكنها جملة لامستني جدًا، فلطالما راودني إحساس، أن خلف كل دكتاتور، عاجز جنسي. لكن أعتقد أن هذه هي نصف الحقيقة، والحقيقة الكاملة، أن خلف كل إنجاز، ضعف جنسي أو حرمان عاطفي. وحده الإنسان الطبيعي، الراضي، الساكن، الهادئ، وحده الذي يصل كل ليلة إلى منزله، ليتناول عشاءه، يضاجع زوجته وينام… وحده الذي يولد ويموت بلا إنجاز؛ سوى نطفة قذفها في رحم، فأنتجت مخلوقًا، يتفاخر به، كونه أقصى ما يمكن أن يفعله، يكرسه أسمى رسالاته.

أما الكتّاب والقادة، المفكرون، الثوريون… فغالبًا لا عشيقات لهم، ولا بيوت يعودون إليها. لذلك، كل إنجازات البشرية، من فكر وفلسفة وحروب ومجازر وأدب عظيم، هو نتاج المرض النفسي، وخاصة الاضطرابات الجنسية منها، أو المتعلقة بالجنس.

الإنسان السوي لا ينتج أدبًا، لا يحرك أسطولًا، ولا يصنع تاريخًا… لذلك نستطيع القول، بأحد الأشكال، أنه في البدء كان المرض النفسي، ومن المرض النفسي سينطلق كل الإبداع. ألا نقول عن أشد أشكال الإبداع روعة، بأنه جنون؟ ألم يكن أديسون مجنونًا، حين يمكث في بيته، منعزلًا، يعيد التجارب مئات المرات، ويصنع أشياء غريبة؟ ألم يكن نيتشه مجنونًا؟

حتى المسيح، بمعايير ذاك الذي يعود ليلًا ليضاجع زوجته، هو مجنون؛ فمن هذا الذي يحمل صليبًا على ظهره، ويقف عاريًا، تغطيه جراحه، من أجل فداء البشرية!؟ هل يفعلها ذاك المضاجع لزوجته؟ هل يترك قصرًا ويجوب الشوارع شبه عار، يطلب الصدقات، ويجلس ساعات، متأملًا تحت شجرة تين، كبوذا؟ هل يقف على شرفة وزارة الدفاع، ليقتل نفسه بالسيف مثل يوكيو ميشيما؟ هل يترك منصبًا حكوميًا رفيعًا، ليعيش في الأدغال كتشي غيفارا؟؟

ربما يكون ذاك العائد إلى منزله ليلًا، كريمًا، وربما يتصدق ببعض المال على الفقراء، لكنه أبدا لن يتنازل عن ماله كله ليعيش على 1 بالمئة منه، مثلما فعل مارك زوكربيرغ، أو حتى على نصف ثروته كبيل غيتس! لن يترك دراسته ومستقبله وإقامته النظامية في الولايات المتحدة الأميركية، ليعيش وسط الحروب، كباسل شحادة. لن يهجر قصور حي المعادي الفاخر، ليعيش في الكهوف، كأيمن الظواهري. ثمة كثير من تلك الأمثلة، سواء بوجهها الأبيض المشرق، أو وجهها الأكثر ظلامًا وإجرامًا، ببساطة، لأنه تاريخنا… التاريخ الذي صنعه هؤلاء الحمقى والمضطربين. حضارتنا نحن البشر، من أقصى بقعة في اليابان، إلى أقصى موطئ قدم في القارة الجديدة… تاريخ لحظات في حياة رجال، لا يعودون مساء إلى بيوتهم؛ بل يفقدون بصرهم من كثرة القراءة، كبورخيس. يبيعون السجائر على الأرصفة، كمعروف الرصافي…

حضارتنا ابنة اللامنطق؛ ابنة الجنون.

حضارة ابنة المرض النفسي، بل هي ذاتها مرض نفسي…

مقالات ذات صلة

إغلاق