نكتبُ عن الأمكنة التي ضجرت منّا، وأغمضتْ عينيها ثم ابتعدتْ، تاركة خطواتنا المتقدة صوبَها لحريق الذكريات، أو لنكتبَ لها -في ما بعد- رسائلنا، وكأنّها خُلقتْ للتوّ.
في يومٍ ما، تفيقُ زهرةٌ قديمةٌ في ظلالنا، وتأخذنا إلى ما اعتقدنا أنّه لن يعودَ، أو ربّما لم ننتبه لموتِه، من كثرة الموت الذي يبحث عنّا.
في مزاجٍ ما، وكالسائر في نومه، سنتبعُ تلك الرائحة على رؤوس أصابعنا، لن نسألَ الخطوة إلى أين تمضي، لن نلتفت إلى لوحات الطرق، ولا إلى الوجوه الشاردة تلك التي لا تجيبنا عن أيّ شيء.
تغادر الأسماء مع بيوتها، وليس من أحد هنا ليخبرني:
أين تعيش مكتبات دمشق الآن؟ كيف حال تلك العتبات؟ هل تشتمُنا كلّ صباح؟
أتذكرُ سؤال هنري ميلر في كتابه “الكتبُ في حياتي”؛ عمّا يجعل الكتاب يعيش؟ يقول: إنَّ الكتاب يعيشُ عبر التزكية الهُيَاميّة من قارئ إلى آخر.
مأخوذة بشغفٍ قديم هذا اليوم، يشبه حال قدماء مصر عندما سمّوا المكتبة، “مكان إنعاش الروح”.
أواخرَ السبعينيات نبتت زهرة هنا، تسمّى مكتبة مَيْسَلون، تقع على الرصيف المقابل لسينما الشام، كانت وكيلة لدار التقدّم الروسية التي طبعت أعمال لينين وكارل ماركس وإنجلز كافة.
هل تتذكرون مطبوعات دستويوفسكي القديمة فوق رفوف مكتبة ميسلون؟
كانت أشبه بمعرض واسع للكتب، يتوزع فيه كثير من إصدارات دور النشر العربية ذات الطابع العلمانيّ.
اختفت المكتبة، ولم يعد لجسدها أيّ أثر، وصارت تلك الفسحة تسمّى: “مركز زمزم للصرافة”.
مع هذا كانت أحلام اليقظة تدخل ميسلون، وتسرق كتابًا. الآن تمشي معي تلك الكتب، ونقطع الشارع سويّة صوب سينما الشام المهجورة. أبتعد عن المكان؛ كي أقرأه جيدًا. أسند ظهري إلى باب سينما الشام المغلقة، أتحسّسُ خشونة الباب، أسمعُ تمزقَ أوراق التذاكر في الداخل المعتم.
بين سينما الشام المهجورة ومكتبة ميسلون المغلقة، تخرجُ الكتب من البيوت والحقائب والذكريات ثم تدورُ في الهواء.
التذاكر القديمة المطويّة في معطفي، تلك التي كنت أنساها في جيبي وأضعها في الغسّالة، رأيتُ حروفها الرطبة تطير مع الكتب كفراشات الربيع.
يتساقط المطر، بينما يلمع البرق في اللوحة الإعلانية الملونة لمركز الصرافة.
أقرأ جملَ اللوحة المتحركة، وأفكرُ أنّ المكتبة نهرٌ يخترق المدينة.
تعيشُ الأمكنة في ذاك الجزء القصيّ من النسيان، إنّها تتجذّر أكثر كلما ابتعدنا، وكلما غابت، وكأنّها تخطط للرحيل.
بالقرب من هنا، كانت تعيش سينما ومكتبة أخرى.
المكتبة توحي
السينما تضيء.
محلّ فضيّات عتيق خرجت منه أغنية فيروز: ” عندي ثقة فيك وبيكفي”
يمشي صوتُ فيروز معي صوب زهرةٍ أخرى، نبتت قرب سينما الزهراء من سبعينيات القرن الماضي، وكانت تسمى مكتبة الزهراء.
ألصق أنفي بالزجاج، المكان موحشٌ ومظلمٌ في الداخل، الفراغ يطوّقُ نظرتي صوب آلة تصويرٍ وُضعت وسط المكتبة، وقربها كرسيّ تدلّى فوقه وشاح أزرق.
هل تأملتَ يومًا مكتبًة مهجورًة تجلسُ وحيدًة مع شالٍ أزرق؟؟
ورقة إعلانٍ صغيرةٍ أُلصقت على بابِ المكتبة الزجاجيّ، تخبر المارّة أن عيادة الأسنان التي كانت في الطابق العلويّ، انتقلت إلى الشارع الخلفيّ.
مكانٌ يهاجرُ ويترك علامة رحيله فوق مكانٍ رحلَ منذ مدّة.
هل من إشارةٍ تومئ بها المكتبة قبل أن تغلقَ أبوابها، تتأسفُ فيها للغبار؟
لم أقرأ ذاك الإعلان الصغير فوق الباب سوى ورقة نعي تنعي إلينا مكتبة الزهراء.
أترك أغنية فيروز على باب المكتبة، وأتذكر فاليري:
للكتب والإنسان الأعداء أنفسهم
النيران والرطوبة والحيوانات والوقت.
Ce soir: تعني في الفرنسيّة “هذا المساء”، جملة رأيتها مكتوبةً أسفل اللوحة الزجاجيّة، التي كانت مخصصة للإعلان عن عروض الأفلام على حائط سينما الزهراء.
اللوحة فارغةٌ كما السينما المغلقة.
لكني وضعت في داخلها كل الصور التي بوسعها -أيضًا- أن تكون إعلانًا لفيلم جديد:
“الرفوف، الطاولات تحت الرفوف، بطاقات ملّونة، أكياس الكتب، المفكرّة، سجائر الزوار في المنفضة المتسخة، سؤال عاشقةٍ عن كتاب للشعر، عمّال يُفرغون كتبًا جديدًة، حديثُ الغبارِ مع الكتب عندما ينام الجميع”
الكتاب يزرع
الفيلم يقطف لنا الزهرة.
أقطع الشارع قرب البرلمان، وأصل زقاقًا في شارع العابد القديم.
الطريق بين مكتبات دمشق كتابٌ أليف، إنه تناغمٌ فريدٌ ومبدعٌ حدثَ صدفًة فيما مضى، أن تتوزع تلك الكتب بين المفارق والزوايا، وتقودكَ حواسكَ المتناغمة إلى رائحة الورق في آخر الزقاق.
الطريق من مكتبة الزهراء صوب مكتبة إيزيس، كتابٌ أيضًا نستطيع أن نعيدَ تأليه في كلِّ مرةٍ، ونحن نمرُّ في الزحام، دون أن ننسى مصافحة تلك الشرفات ذات النوافذ العالية.
مكتبة إيزيس، عندما أتذكرها تخطر لي رائحة الفلفل والبهارات الحارّة، إذ كانت تعيش في زقاقٍ حسّاسٍ من الفيء، يسمح لروائح الطبخ أن تفوحَ جيدًا إلى مخيلتك مع طعم المرأة وألوان الصحون والبيت الذي تخرج منه تلك الروائح.
تجولتُ مرتين في ذاك الشارع وأنا أبحث عن إيزيس، كنت أصلّي ألاّ تكون زهرًة أخرى انضمّت إلى الزهرات التي أغلقت في دمشق.
دخلتُ سوبر ماركت وسألتُ صاحبها عن مكتبةٍ كانت في هذا الزقاق، اسمها إيزيس، أخبرني وهو يغطي سطل اللبن لزبونٍ مستعجلٍ، أنّه لا يعرف هذا الاسم، ثم استدرك متذكرًا، تلك المكتبة على بعد خمسين مترًا منه، لكنها أغلقت منذ ست سنوات تقريبًا.
كنت سأصرخ في وجهه، لولا الغرابة التي بدت عليه، وهو يتذكر مثلي مكتبة إيزيس.
تمشيتُ حتى وجدت المحل الذي استوطن واحتلّ مكان إيزيس، نعم شعرتُ وقتئذ أنه احتلالٌ حقيقيّ.
“خربشات”، تمَّ نحتُ الاسم وزخرفته، وكأنه اسمٌ لمكتبةٍ جديدة، لكنّه كان محلًا لبيع الهواتف المحمولة.
عندما عدت أدراجي في الشارع ذاته، رأيت لوحًة عريضًة لطبيب أسنان، اختفى معظمها داخل أغصان شجرة على زاوية الشارع، حتى أنه صار من الصعب قراءة اسم الطبيب.
لا شيء يمنع الأشجار من أن تعلو، يختفي الاسم بين أغصان الشجرة، والشجرة لا تكترث لكل ذلك، لم تر أي شيء، بل تابعت غناءها المنفرد حتى السماء.
هذا يشبه انتقال الأمكنة مع أسمائها.
السحر في هذه الشوارع، أن الفرق بين زقاقٍ تخرج منه وآخر تدخل إليه، كالفرق بين قارّة وأخرى، الزحام بدأ بالتسارع مع كلماته المتقطعة، لكنّي أحبُّ تلك الأحاديث العابرة التي تمرُّ أمامي. لا أسمع منها إلا كلمًة أو كلمتين، وأكملُ بقيّة الحديث مع نفسي، وأحيانًا أمزج الأحاديثَ ببعضها، لتصير قصًة جديدًة، كتبتها شخوص الزحام ووضعت عنوانًا لها.
بين مقهى الكمال ومقهى الهافانا وسينما الكندي، تقع زهرتي التي أحبّ، سيدة الكتب “مكتبة دار اليقظة”.
عام 1938 بدأت مكتبة اليقظة بترتيب الكتب فوق الرفوف، طبعت وترجمت أهمَّ الكتب العالمية، إضافًة إلى التأليف، وأنتجت نحوًا من ألف كتاب، تنوعت عناوينها بين الفلسفة والفكر والنقد، وأظنُّ لو أننا في مكان خارج هذا الوطن الحزين، لعددتُ تلك المكتبة إرثًا وطنيًّا وقوميًّا للبلاد.
أغلقت زهرتي التي أحبُّ أبوابها منذ أربع سنوات، وقد تناوب على احتلال ذلك التاريخ محلان على التوالي، الأول كان لبيع البرادات والغسالات، أما الحالي فمحلّ أحذية، جاءت لافتته العريضة بعنوان: “اليمامة”، أثق أن أرواح المكتبات لا تغادر أمكنتها أبدًا، بل أعتقد أن الذي أطلق على محل الأحذية ذلك الاسم، كتابٌ من القرون الوسطى، كان يجثو وحيدًا على الرف الأخير.
في دمشق كل مكتبة تسكن بالقرب من صالة سينما في حزن غريب.
ما إن تغلق مكتبة حتى تتبعها صالة السينما قربها فتغلق أبوابها.
السينما والكتب جذر واحد، لذلك إن العاصفة هي ذاتها، التي مرت على ذاك الحقل، واقتلعت مكتبات دمشق وصالات السينما من جذورها.
أستعيد الأسماء القديمة في أماكنها: دار اليقظة فوق اليمامة للأحذية، وإيزيس فوق خربشات، واسم ميسلون فوق مركز زمزم للصرافة، أعيد للزحام أحاديثه المتقطعة، وأردّد مع بوسكيه:
يقيم الشاعر في المدينة؛ كي يقول إنها تقعُ في مكانٍ آخر.
[av_gallery ids=’75600,75601,75602,75603′ style=’thumbnails’ preview_size=’portfolio’ crop_big_preview_thumbnail=’avia-gallery-big-crop-thumb’ thumb_size=’portfolio’ columns=’5′ imagelink=’lightbox’ lazyload=’avia_lazyload’ custom_class=”]