كانت الإمبراطورية البيزنطية تتميز بمجافاتها لطبقة النبلاء، وكانت تعمل على إثقالهم بالأعباء المالية والمعيشية، والحد من توسعهم العقاري، بفرض ضرائب عالية عليهم، ولكن في تدرّج؛ ما يؤدي إما إلى هجرتهم أو إفقارهم، وهذه السياسة كان مردها الخوف على النفوذ والسلطة، لأن طبقة النبلاء المرصودة كانت تتمتع بقابلية استقطاب جماهيرية، تؤهلها للتمرد على الإمبراطورية، وخاصة في الجغرافيا البعيدة عن المركز، إذ تصبح السيطرة العسكرية أكثر صعوبة وتكلفة، وأردفت هذه المجافاة بالإغداق على أفراد يشكلون طبقة بديلة، تفوق النبلاء غنى، ولا تملك أي حس بالمسؤولية تجاه المجتمعات التي تنتمي إليها، لم تفلح بيزنطة كثيرًا في هذا الشأن، لذلك؛ كانت سهلة التآكل أمام أي غزو يجتاح أطرافها، وحتى العقيدة المشتركة لم تفلح في المحافظة على ولاء الأمصار للمركز.
هذه السياسة البيزنطية بقيت، على الرغم من إخفاقاتها التاريخية، ملهمة للطبقة الحاكمة في كثير من أصقاع العالم ومجتمعاته المبتلية بسلطات استبدادية مديدة، بل إنها أصبحت الركيزة الأساسية لكل الحكومات التي ورثت العهود الاستعمارية، تحت مسميات الاشتراكية وحكم الشعب، وغيرها من الشعارات البراقة، والقاتلة والمدمرة بآن واحد.
عندما بدأ الاحتلال الفرنسي يعد العدة للخروج من سورية، كانت فئات واسعة، ومن الأقليات خاصة، تعمل في عداد جيش الشرق الذي كانت فرنسا بواسطته تهيمن على البلاد، في لحظة حرجة -كهذه- تقدمت أعداد هائلة بطلب إبقاء الحماية، أو الموافقة على هجرتها إلى فرنسا أو إحدى البلدان التي تسيطر عليها، ولم تستجب فرنسا، ما حدث بعدئذ أن أمراء القبائل والعشائر وكبار الأعيان ورجال الدين والوجهاء تنادوا لطي صفحة الماضي، مقدرين دور العوز والحاجة في تبعية هذه الفئات للمستعمرين. وضرورة تكاتف الجميع من أجل بناء الاستقلال المرغوب. كان لتلك الزعامات الشعبية دور كبير في حشد الشعور العام بما تملكه من فيض المعنى، وخاصة أنها لم تكن ذات طموحات سياسية، كالطبقة البرجوازية في المدن الكبيرة. ما كان يتمتع به هؤلاء من قدرة على الاستقطاب بات -لاحقًا- من أكثر أسباب القلق على السلطة عند الحكومات الانقلابية المتعاقبة، ومنذ أن هيمن البعث على البلاد شكل بأيديولوجيته محملًا رئيسًا لسياسة القضاء على الزعامات التاريخية، عبر وسائل اقتصادية وأمنية، وثقافية أيضًا. فتراجع تأثيرها الجمعي، وبعضها هاجر داخليًا أو إقليميًا، أو خارج الإقليم كله، وخاصة الجيل الثاني والثالث، إذ شهدت الستينيات بداية التقليم الاقتصادي، وفي الثمانينات تكامل هذا التقليم بالتقليم الأمني الشامل، طبعًا مع تصعيد ثقافة (مقاومة الإقطاع) المزعومة باستمرار.
ليس القصد هنا مديح هذه الزعامات، إنما الإشارة إلى نمط إنتاجي كان يُشعر الناس بالطمأنينة أكثر من النمط الإنتاجي للدولة الأمنية، ويسمح للناس بالتعبير في فضاء القبيلة أو العشيرة، مع كونهما من الأشكال البدائية للمجتمعات، أكثر من ديمقراطيات الأب القائد أو الأخ العقيد. فشخصية (أبي خوام) مثلًا، وإن كانت تمثل ملاكًا من كبار الملاك في الجزيرة السورية، إلا أنه بتحميل نفسه مسؤولية مباشرة عن المئات من العاملين في مصالحه، إضافة إلى الآلاف من المتطفلين عليه، ومجلسه الذي يتوسط المدينة، المفتوح لكل من هب ودب، للإقامة ونيل ما يحتاجه من طعام أو مال، إضافة إلى الدعم من أجل الطوارئ الصحية، أو إنجاز معاملات وشؤون إدارية عسيرة، كان هذا الشيخ؛ فعليًا مجرد وصي أمين على هذه الأموال، وشخصية حكيمة قادرة على تسيير ما يتعسر من أحوال الفقراء والمستضعفين. بل كان حس المسؤولية يشمل الأرض بمنحها فرصة أن تستعيد نشاطها، والاكتفاء بما توفر من مياه آبار سطحية، دون الوصول إلى أعماق أكثر فيضًا، حفاظًا على الأرض من أن تتيبس وتتصحر في المستقبل، كانت هذه الشخصية وغيرها من الشخصيات المشابهة تمنح الناس الثقة بأن أحوالهم لن تنحط بهم إلى درجة الحرمان والعدم. وأنهم في لحظة حرجة سيجدون الدعم اللازم لتجاوز الأزمات المادية أو الحياتية أو الصحية.
بينما الطبقة التي أنشأتها السلطة من التابعين لها، بما فيهم من فساد وانتهازية، واغتنت بمصادرها المشبوهة، أو بخدماتها لتمكين هيمنة النظام على كل زاوية من البلاد، كان آخر هم هذه الطبقة ان تخدم معوزًا أو محتاجًا، بل إنها كانت تتصيد الجميع من أجل رشى وإتاوات بأشكال متعددة، تحول بعضها إلى إجراء رسمي من خلال اشتراط الموافقة الأمنية لأي عمل أو وظيفة أو شأن إداري، حتى وصلت الإجراءات إلى ضرورة الموافقة الأمنية على تسجيل المواليد الجدد. وطبعًا لا بد من دفع إتاوة تسيّر الأمور.
وكذلك في المدن كانت طبقة التجار التاريخية تؤسس لواقع اقتصادي وصناعي تنموي غالبًا، تنهض باقتصاد البلاد، وتهيئ فرصًا وظيفية مستقرة ووافية، بينما الطبقة التي دخلت من خلال الإتاوات بداية، وبفرض الشراكة تاليًا، كانت تهتم بالموارد السريعة، واتجهت نحو التجارة والصناعة في المواد الاستهلاكية، شكلًا من أشكال الربح السريع. ثم نحو التوكيلات والامتيازات التي تجعل من فرص العمل بحد ذاتها خارج معادلة التنمية الاقتصادية للدولة والمجتمع، وليس نشاط السوق فحسب!
تفاقمت الأزمات الناتجة عن تصاعد الاحتكار الذي كان يدار من فئة سلطوية تتمتع بصلاحيات أمنية واقتصادية مطلقة، وخاصة مع تحول معادلة السلطة في بداية الألفية الثانية، من فساد في خدمة النظام، إلى نظام في خدمة الفساد. ففي العقود الثلاثة الأولى من هيمنة البعث، كان التأميم وسيلة لتحطيم الكيانات الاقتصادية العريقة القائمة، وتأثيم القطاع الخاص، مثلما كانت الخصخصة -في ما بعد- وسيلة لكيانات بديلة، ومهيمنة. مع أنها تعادل الخيانة في ما سبق! هذه السياسة المتبدلة بين التأميم والخصخصة، كانت الطريقة التي نقلت بها السلطة القطاع التجاري والصناعي، بل حتى الزراعي، من إدارة طبقة وثيقة الصلة بالمجتمع وجدانيًا وثقافيًا، إلى طبقة نفعية لا ترى في المجتمع سوى مساحة لجباية المال بأي وسيلة كانت! وبدلًا من أن تسهم الخصخصة في تنمية المجتمع ونهضته، باتت الثقب الذي تتسرب منه ما بقي من القدرات المالية والمعيشية؛ حتى أصبحت حياة الكفاف -فحسب- أمرًا عسيرًا ومجهدًا، لا يتيسر لكثيرين. والمستضعفون والفقراء الذين كانوا يحلمون بتنمية تكفيهم مغبة سؤال (أهل الفضل)، لم يبق أمامهم سوى التذلل لفئة حلت محلهم، ليس للسؤال من أجل دفع محنة، إنما لإبقاء هامش هزيل للحياة.