تحقيقات وتقارير سياسية

59 عـامًـا علـى وحــدة 58: الجمهورية العربية المتحدة

في كل عام، عندما تمر ذكرى ميلاد “الجمهورية العربية المتحدة”، تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام التي كانت زاخرة بالأحلام، نعم، كانت أيامًا صعبة، لكن المواجهة كانت مكشوفة بين من كانوا يحملون مشروعًا لتحرير الأمة، ورفع اليد الغاصبة عن مقدراتها، والنهوض بها، على ما بينهم من اختلافات، وما يعتريهم من قصور واختراقات، بينهم، وبين أعداء الأمة على ما بينهم من اختلافات أيضًا، حول التحاصص في تقاسم الغنائم العربية، وعلى الرغم مما يمتلك أعداء الأمة من عناصر القوة والتآمر والتوحش والتخطيط، كانت المعركة تبدو، خاصة في النصف الثاني من عقد خمسينيات القرن المنصرم، وكأنها متكافئة، بل بدت الأمور في فترة من الفترات، وكأن مشروع التحرر والنهوض العربي يتقدم ، وأن مشروعات السيطرة الاستعمارية تتقهقر، لقد كان الاندفاع والحماسة في أوجه؛ إذ بدأ الحديث عن الخليج الثائر، والمحيط الهادر، وما بينهما من مقاومة عربية وثورات، وبدا، وكأنه لم يعد أمام الاستعمار إلا أن يحمل عصاه ويرحل، بل وصلت الحماسة إلى درجة الدعوة إلى كسر عصاه، وأن عليه أن يرحل بدونها، وأن عملاء الاستعمار من الحكام، ومن غير الحكام، عليهم أن يلحقوا بأسيادهم، وقد توجت تلك المرحلة بقيام دولة “الجمهورية العربية المتحدة”، في 22 شباط / فبراير 1958، دولة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد إزر الصديق، ترد كيد العدو، لا تنحرف ولا تنحاز…. كما أعلن زعيمها جمال عبد الناصر حينذاك، وكان الحلم أن تلك الجمهورية خطوة -فحسب- على طريق الوحدة العربية الشاملة بين المحيط والخليج …! ولن أنسى ما حييت تلك الأحاسيس التي كانت تنتابني صباح كل يوم، وأنا أسعى إلى “الترانزستور”، أنتظر البلاغ رقم 1 يعلن الثورة، وانضمام دولة عربية جديدة إلى “الجمهورية العربية المتحدة”.

(2)

تبين بعدئذ أن  الحق والحماسة، والنية الحسنة لا تكفي لمواجهة قوى، ومخططات القوى المعادية بالغة التنظيم، فائقة القوة، وأن الاستثمار الأجنبي في الوطن العربي له امتداداته وعناصر قوته، إذ استنفرت قوى الهيمنة الدولية كل ما تملك لمواجهة مشروع التحرر والنهوض العربي، وبدأت باختبار جميع أدواتها من أول خريطة سايكس – بيكو  في الشام والعراق، إلى الدول العائلية في الخليج، والتقسيمات الشائهة في وادي النيل والمغرب العربي، إلى آخر المستعمرات الصهيونية في فلسطين، إضافة إلى القواعد العسكرية الأجنبية والجيوش الاستعمارية التي كانت تسيطر على عدد من الأجزاء العربية المحتلة باستعمار مباشر، إضافة إلى أن تلك القوى الدولية التي تتنافس في وضع يدها الغاصبة على ثروات الشعوب، حوّلت الوطن العربي إلى ساحة صراع بين دول الهيمنة من جهة، وإلى حالة من التكامل فيما بينها لمواجهة أي تحرر ونهوض عربي، يتنافسون ويتصارعون في السيطرة على الوطن العربي، لكنهم يتحالفون في ما بينهم؛ لمواجهة أي مشروع تحرر، أو حرية، أو تقدم في الوطن العربي، لهذا، وبعد تلقي الصدمة التي تولدت من قيام الجمهورية العربية المتحدة، بدأت القوى المعادية بتجييش كل قواها لوقف المد الوحدوي أولًا، بإجهاض ثورة العراق عام 1958، ومنع انضمامه إلى العربية المتحدة، ومن ثم؛ البدء بمحاصرة دولة الوحدة ذاتها، والتآمر عليها من الداخل والخارج إلى أن نجحت مؤامرة فصل الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة، في 28 أيلول/ سبتمبر1961.

(3)

بانفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة، انتقل مشروع التحرر والنهوض العربي، من حالة الهجوم إلى مرحلة الدفاع، ومن التقدم إلى الانكفاء، فحتى محاولة الرد على الانفصال بالاندفاع باتجاه اليمن تحولت إلى ورطة، وحتى الانقلابات العسكرية التي حدثت في العراق وسورية والجزائر في النصف الأول من عقد ستينات القرن المنصرم، بوصفها “انقلابات تقدمية”، ردًا على الانفصال “الرجعي”، تحولت إلى عبء إضافي، وإلى إثارة صراعات إضافية مدمرة داخل ما كان يُعرف “بالقوى التقدمية العربية”، ونتج عن ذلك عصبيات إقليمية جديدة ، بل ما دون إقليمية، هددت بخطورة النسيج الوطني في الأجزاء، وفي الكل العربي، وهكذا بات الوضع ملائمًا لتهجم القوى المعادية للأمة العربية هجومًا كاسحًا، مستغلة الأخطاء والخطايا والخروقات التي حدثت داخل ما كان يُعرف بـ “القوى العربية التقدمية”، فكانت هزيمة الخامس من حزيران /يونيو 1967، وما نتج عنها من آثار شديدة الخطورة، أدت في نهاية المطاف إلى غياب، أو تغييب، رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر، وإلى انقلاب السلطة الشمولية في مصر على ما كان قد تبقى من “الجمهورية العربية المتحدة” في الإقليم الجنوبي، ولم يكتف الانقلابيون بإلغاء اسم الجمهورية العربية المتحدة، وإنما حُوّل الإقليم الجنوبي من قاعدة لمشروع التحرر والنهوض العربي إلى قاعدة للاختراق الصهيوني، فرُفع العلم الصهيوني وسط القاهرة، وما زال إلى هذه اللحظة من السادات إلى السيسي.

لعل السؤال الذي يتردد على مسامعنا منذ نصف قرن، ولم يجاب عنه بدقة حتى الآن، هو: لماذا انحسر مشروع التحرر والنهوض العربي؟ وأين كان الخطأ؟ وأين كانت الخطايا؟  والأهم لماذا لم يتمكن حملة راية الثورة والتقدم العربي، أو من تبقى منهم، من تدارك الأمر، واستئناف مسيرة التحرر والنهوض؟ هل المشكلة ذاتية؟، موضوعية؟ هل المشكلة بالمشروع ذاته؟  أم ذلك كله وأكثر؟

(4)

وإذا كان من المفترض أن يكون هذا الحديث احتفاليًا بمناسبة هذه الذكرى العطرة، التي أخرجتني ولو للحظات من هذا الواقع المرير الذي نعيشه هذه الأيام، ومن ثمّ؛ لا يحتمل فتح ملفات بالغة الدقة تحتاج إلى كثير من التدقيق للخروج من المأزق، ومن حالة الحصار التي تطبق على الأمة، لكن لعل المسألة الجوهرية تمثلت في أن القوميين العرب التقدميين انصرفوا عن ترتيب بيتهم الداخلي، وأنكروا المشكلات التي يعانون منها، وكابروا في معالجة العيوب التي تفاقمت في صفوفهم، واتجهوا يحمّلون مسؤوليات هزائمهم وانكساراتهم عبر شتائم للاستعمار وعملاء الاستعمار، وعلى الإمبريالية والصهيونية والرجعية، ومن ثمّ؛ لم يعملوا على إيجاد الحلول لمشكلاتهم وتنظيم صفوفهم، وإنما باتوا أسرى مفهوم المؤامرة والاستلاب، نعم لقد ترتب على ذلك العدوان متعدد الجنسيات أن الهوية العربية التي كانت مصدر اعتزاز وفخار لجميع أبناء الوطن العربي، من قبائل عربية وكردية وأمازيغية ونوبية وطوارق وتركمان وشراكسة وأرمن وسريان وأقباط، وكانت الهوية العربية مصدر اعتزاز وفخار للمسيحيين بطوائفهم، وللمسلمين بمذاهبهم، وللعلمانيين بمدارسهم وللسياسيين بمناهجهم ونظرياتهم، تحولت هذه الهوية العربية على يد أدعيائها وأعدائها ممن ارتكبوا الآثام والجرائم باسمها إلى سُبة وشوفينية وعنصرية واستبداد، فتهتك النسيج الوطني العربي، وتحولنا من مواطنين في الأجزاء، وفي الكل العربي، إلى أقليات عصبوية متوحشة مأجورة، يتندر العالم بوحشيتها، والأنكى من ذلك أن كل من تلك الأقليات تطالب الآن بحق تقرير المصير والاستقلال في هذه القرية، أو ذلك الحي من المدينة الفلانية بين المحيط والخليج…! فغاب العرب عن المشهد، أو كما يحلو لبعضهم أن يقول: “خرج العرب من التاريخ”.

حتى لا يتحول هذا الحديث إلى مجرد ندب ولطم وبكاء على الأطلال، لا بد من التمرد على نمط التفكير، وأساليب الممارسة التي أدت بمشروع التحرر والنهوض العربي إلى المأزق الراهن، وهذا رهن بوعي الجيل العربي الجديد لحقائق الأمور.

لذلك؛ فإنني لا أجد اليوم من أخاطبه في عيد ميلاد “الجمهورية العربية المتحدة”، إلاّ هذا الجيل العربي الجديد الذي جدّد الحلم بالربيع العربي في مواجهة الطغاة والغزاة، علّه يجد وسيلة ملائمة للخروج من تحت عباءة جيلنا الهرم والفاشل والمهزوم، والمستلبة إرادته وقراره، لعل هذا الجيل العربي الجديد يستعيد المبادرة لتصويب المسار، فما يشاهدونه من خراب هذه الأيام ليس وليد اللحظة، وإنما هو وليد عقود من الخيبات التي عانى منها جيلنا الهرم… فبعد انفصال الإقليم الشمالي1961، وبعد انفصال الإقليم الجنوبي 1970، وبعد صفقة “كامب ديفيد” المشينة 1979، وتنفيذًا لبنودها السرية، دعا أحد أبرز مراكز الاختراق الخارجي المعادي لبنية المجتمع العربي (مركز ابن خلدون لصاحبه سعد الدين ابراهيم) إلى ما أسماه يومئذ “مؤتمر الأقليات في الشرق الأوسط”، وقد تمثل في ذلك المؤتمر – كما قالوا – 285 أقلية، تطالب كل منها بحق تقرير المصير، بحيث تكون المستعمرات الصهيونية أكبر تلك الأقليات… الآن، وفي مرحلة الهجوم والاختراق والتآمر على الربيع العربي، وبعد أن بات الدفاع عن النظام الإقليمي وفساده ومافياته ونهبه وصهينته مستحيلًا، يشهرون الآن سلاحهم الاحتياطي، وهو “دول” الأقليات المذهبية والاثنية والطائفية والدينية والقبلية والإقليمية، ومرة أخرى لا وجود للعرب، وإن بعدهم أقلية، فدعونا نعترف أننا -العرب- الآن غير معترف بنا أقلية، فالعرب لا وجود لهم في خرائطهم، فجميع تلك الأقليات لها هيئاتها التمثيلية وميليشياتها المسلحة وصحفها وإذاعاتها وتلفزيوناتها ومصادرها المالية والاقتصادية، وعلاقاتها الدولية، إلا العرب لا صوت لهم، ولا من يمثلهم، ولا من يطالب بحقوقهم.

دعونا الآن، بالضبط الآن، نوجه الدعوة إلى ما تبقى من العرب في الوطن العربي علهم قبل فوات الأوان يرصوّن الصفوف، وينتجون هيئاتهم التمثيلية؛ أسوة ببقية الأقليات؛ للمطالبة بحق تقرير المصير على أقل تقدير… ففي خرائطهم السابقة والمعدلة والحديثة: لا عرب في بلاد العرب.

(5)

هناك سؤال تردد، ويتردد على امتداد العقود المنصرمة: كيف نجح انفصال 1961 على الرغم من حالة المد الجماهيري العربي الكاسحة التي كانت سائدة في تلك الأيام؟

باختصار شديد أقول: إن الشعب في سورية هو الذي فرض بإرادته الحرة قيام “الجمهورية العربية المتحدة”. صحيح أن جمال عبد الناصر استجاب، لكن القرار كان قرار شعب سورية العظيم، وشعب سورية العظيم -هذا- كان قد امتلك حريته وإرادته وقراره منذ عام 1954 عندما وضع حدًا للانقلابات العسكرية، وأعاد العمل بدستور 1950، حيث حرية الرأي، والفصل بين السلطات، وحرية الأحزاب، تلك الحرية أطلقت يد الشعب، وأنارت هويته العربية الأصيلة (الهوية الجامعة وليست الهوية العنصرية)، فشارك هذا الشعب كله في مواجهة عدوان 56 على مصر، وواجه سياسة الأحلاف الاستعمارية، وتوج ذلك كله بقراره الحاسم (بدنا الوحدة باكر باكر مع ها الأسمر عبد الناصر) فقامت دولة “الجمهورية العربية المتحدة” ، ذلك كان جوهر ما حدث، لكن ماذا حصل بعد ذلك؟

كان من المفترض أن هذا الأنموذج في الحكم الذي أطلق إرادة شعب سورية باتجاه الوحدة أن يكون هو نظام حكم “الجمهورية العربية المتحدة”، وأن يكون دستورها مع بعض التنقيحات هو دستور 1950 ذاته، لكن، وللأسف الشديد كانت تجربة الحكم في مصر، مع الأوضاع التي كانت سائدة قبل الثورة، هي التي اعتُمدت، دون النظر إلى أن الأحزاب في سورية كانت تتسابق لإشهار هويتها العربية، حتى تلك التي كانت غير مصنفة قوميًا، يكفي مثلاً أن ندقق في “ديباجة” دستور 1950، في ما يتعلق بالهوية العربية، وضرورة النضال من أجل تحقيق الوحدة العربية، ذلك الدستور الذي أقُر في ظل أكثرية برلمانية لحزب الشعب في ذلك الحين. وهو المُصنف بعد ذلك بأنه: كذا وكذا.

ما يعنينا هنا أن نظام الحكم الشمولي المتأثر -في ذلك الوقت- بتجربة منظومات الحكم الشمولي في “المعسكر الاشتراكي الماركسي”، هو الذي اعتُمد في دولة “الجمهورية العربية المتحدة”، فتغولّت الأجهزة الأمنية، ونُحي الشعب في سورية جانبًا، ففتُحت الأبواب أمام مؤامرة الانفصال التي جرّت الويلات بعد ذلك من 67 إلى السادات و”كامب ديفد” ومبارك والسيسي والأنظمة الاستبدادية والجملكيات و….

صحيح أن هذا الحديث كان عن الماضي، لكنه موجه للجيل العربي الجديد أساسًا، وحصريًا، كي لا يكرر الأخطاء والخطايا التي ارتكبها جيلنا، فالجمهورية العربية المتحدة المقبلة لن يقيمها إلا شعب امتلك حريته وقراره وإرادته، ولن يحميها من المؤامرات إلا شعب يمتلك حريته وإرادته وقراره، وأقول لأبنائي من الجيل العربي الجديد: لا تركنوا إلى مقولة “المستبد العادل”، فالاستبداد والعدل لا يجتمعان، وإذا اجتمعا ستكون الغلبة في المحصلة النهائية للاستبداد الذي سيكسر الميزان. لقد تآمر على جمال عبد الناصر أقرب المقربين إليه، خذلوه حيًا، وتآمروا عليه حيًا وميتًا، وانقلبوا على مشروعه التحرري، وتحولوا إلى أدوات متصهينة، وتصح فيه مقولة شاعر الشام الجميل “قتلناك يا آخر الأنبياء” … وما زال -حتى الآن- هناك من يرتدي عباءة جمال عبد الناصر، وهو يسوّق للاستبداد والسيسي وإلى آخرهم… ويشوه اسم جمال عبد الناصر.

هذا حديث ذو شجون، فلم أكن أريد تحويل تلك الذكرى العزيزة على قلبي إلى بكائية، لكن دموع الفرح التي رافقتها منذ 59 عامًا تحولت إلى أحزان وما زالت، وأنتم، أنتم، حصرًا أنتم، يا أبناء الجيل العربي الجديد، من يستطيع أن يعيد الفرح إلى تلك الدموع… كل عام وأنتم، وأمتكم… بخير… فتجتازون المحن إلى غد مشرق عزيز.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق