هموم ثقافية

صخرة جنيف: صخرة سيزيف

مسألة التكرار مأساة قائمة بحد ذاتها ، فلقد جاءت أسطورة سيزيف في هذه البنية من التكرار، يرفع سيزيف الصخرة إلى قمة الجبل، ثم تتدحرج من جديد إلى قاعدته، ليعيد رفعها من جديد، وبهذا لا يبدو وزن الصخرة هو الذي يشكل المأساة بقدر ما يشكّلها التكرار والعذاب واللاجدوى، ولم يتوقف الأمر عند هذه الأسطورة، وإنما جاء في تفاصيل الحياة وبنيتها ما هو مشابه وملامس لهذه الأسطورة؛ فالتكرار في أشياء كثيرة تسبب النفور داخل من يكررها، منها تلك العادة التي بُني عليها أحد مفهومات التعليم في المدارس، كتابة الوظيفة عدة مرات، وهذا الأمر لا يحمل بعدًا تعليميًا البتة، وإنما يحمل في عمقه شيئًا من العقوبة، إنْ لم تكن عقوبة كاملة؛ فعدد من المرات المتشابهة يشبه الأيام الكئيبة في تكرارها، وربما يشبه حياة الإنسان في معظم ما تحمله من سيناريوهات متشابهة، ومكررة في الولادة ومضي السنين؛ ومن ثم الموت .

يأتي الشاعر الفرنسي جاك بريفير بقصيدته المشهورة “العائلات الراقية”، ويصوّر لنا من خلالها مأساة التكرار، من لويس الأول إلى لويس الثامن عشر، ويسخر من ذلك التكرار في نهاية قصيدته قائلًا: (أي بشر هؤلاء! لا يجيدون العد حتى العشرين!) وهذا ما يحدث في جنيف واحد، اثنين، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة.

وحين ننعم في جوهر التكرار؛ نجده مستخدمًا -أيضًا- في طرق التحقيق، إذ يُكرَّر السؤال عدة مرات بين الحين والآخر، ذلك أنْ فكرة التكرار على المتهم تشكل له ثقلًا وتعبًا في كل مرة، وجاء هذا الأمر في رواية 1984 لجورج أورويل، حين راح المحقق يكرر سؤاله وجوابه (اثنان زائدًا اثنين يساوي خمسة)، ويأتي السؤال في مثل هذه الأمور على موجة من إرهاق الضحية والنيل منها، عن طريق اللغة التي تطرق إليها الكاتب المسرحي، يوجين يونسكو، كثيرًا، في مسرحياته، وبخاصة في مسرحيته (الدرس).

مؤتمر جنيف الأول، مؤتمر جنيف الثاني، مؤتمر جنيف الثالث، وكما هو معروف، فإنه مؤتمر يجمع بين النظام والمعارضة؛ للوصول إلى حل سياسي برعاية عدة دول، وإلى الآن لم يتوصل إلى نتيجة، وكل شيء يدور في مكانه، وبقي أمر التكرار في جنيف واحد وجنيف اثنين وجنيف ثلاثة هو التكرار ذاته في مأساة سيزيف.

يقف العالم عاجزًا -عن عمد- أمام أكبر كارثة بشرية عرفها التاريخ، ويتوافد الموفدون إلى سورية بالتكرار ذاته والفشل ذاته، وذلك؛ ليصبح التكرار هو الورقة النفسية التي يلعب عليها النظام العالمي، ويُسخرها لإنهاك شعب في حاله، والرضوخ لقرارات دفينة، لا شيء فيها واضح سوى معالم التكرار الذي بات مهزلة في مضمونه وأثره في الشعب السوري، ومن ثمّ؛ أصبحت الأخبار تحمل صفة التكرار، في ما يخص حوادث الغرق في البحر وأحوال الموت تحت القصف وأحوال اللجوء، وأحوال النزوح الجماعي الكبير، ولم يبق من اللغة شيء إلا وتكرر، سواء في النشرات الإخبارية أم في طرح المعاناة -عبر السوريين- في المؤتمرات والصحف والمنابر، وطال هذا الأمر حديث الشارع وحديث العائلات في ما بينها أيضًا.

تُرى مالذي بقي أمام العالم بعد كل هذا التكرار المرير؟ وهل على الشعب السوري أنْ يتعلم العد إلى العشرين؛ كما جاء على لسان جاك بريفير؟

وهل سيبقى العالم يضغط على الشعب السوري؛ كي يتعلم (اثنان زائدًا اثنين يساوي خمسة)؟

ومثلما يقول جورج أورويل: (الحرية هي حرية أنْ يقول المرء إنَّ اثنين زائدًا اثنين يساوي أربعة، فإنْ كان ذلك مسلمًا به، فكل شيء بعد ذلك متاح).

مقالات ذات صلة

إغلاق