تحقيقات وتقارير سياسية

بيروت الغصّة… لا أحد يترك حبه في تفاصيلها

عندما وُجّهت إلي الدعوة لحضور مؤتمر لمدة ستة أيام في بيروت، امتلأت نفسي بالغبطة، ورحت أترقب يوم وصولي إليها، بيروت التي لم أنسَ يومًا جمالها وعشقها، منذ طفولتي وشبابي.

بيروت الأهل والأصدقاء، ومقاهي الأدباء والشعراء والفنانين، ولهفة الأهل والأصحاب علينا، بيروت المدينة البسيطة العاشقة للحياة، على أزقتها وشوارعها حفرْنا بصمات مرورنا، وتركنا أثرَ حبنا لها في جميع تفاصيلها.

نزلتُ من الطائرة وقلبي يسابقني إليها، الأصوات اللبنانية الأليفة، وصوت فيروز والترحيب اللطيف، إنه أول من صافح روحي لحظة دخولي قاعة المطار، وأمام بوابة أمن المطار، اُغتيلت لهفتي عليها، فقد طلبوا من القادمين التوزعَ في صفوف ثلاثة، صف للبنانيين، وصف للأجانب، والأخير للسوريين.

رحت أتابع بحزن روّاد الصفّين الأولين، وهم يمرون بسلاسة وابتسامات وترحيب من أمن المطار، وانطويت على نفسي، وأنا أراقب ما يمرُّ به السوري من تدقيق وتنقيب في جوازات السفر، حاولت أن أبدو مرحًا وسعيدًا، وأنا أقف أمام الموظف الذي ازداد عبوسًا في مواجهة حركتي، وضع الموظف جواز سفري في آلة الفحص، ثمً أخذ يحدّق في وجهي، وأعاد وضع الجواز عدة مرات، ثمّ ثبت منظار التكبير على عينه، وسألني عن سبب زيارتي، وهو يقرأ في جداول أسماء مشكوك بأمرها، ثمَّ حمل جواز سفري وطلب مني مرافقته إلى غرفة ضابط أمن المطار.

دنا الموظف من الضابط، وهمس في أذنه بكلمات لم أسمعها، ثمّ أعطاه وثائقي التي كان يمسكها بعصبية، وسألني مجموعة من الأسئلة وعيونه على حبات جَوزٍ كان يكسّرها ويأكل ألبابها بتمهل، وكنت أجيبه بألم شديد، لقد ذكرني بالأساليب التي واجهتني في فروع النظام الأسدي المجرم، حين كان المحقق يتشاغل بتجهيز (المتة) وهو يحقق معنا.

دخل الغرفةَ أربعة أشخاص، يرتدون الزيّ العسكري، ضخامة أجسادهم وعضلاتهم البارزة ذكرتني بشبيحة النظام ومرتزقته، لوهلة داهمني شعور بأنني داخل مقرّ أحد الفروع الأمنية، الضابط أمامي يرد على الهاتف، وينظر إليّ ببرود مقيت، محاولته ترديد الأسئلة بأسلوب مهذب، لم تجد لها طريقًا لطمأنتي والتخفيف من حدة التوتر الذي تملّكني، سؤاله المتكرر عن سبب مغادرتي سورية، ولماذا اخترت المكوث في تركيا؟ وما سبب زيارتي إلى لبنان؟ دفعني إلى استجلاب الهدوء إلى قسمات وجهي، ورحت أجيبه وأنا أتصنع التروي والهدوء، وأخيرًا طلب مني إبراز مبلغ ألفي دولار وبطاقة الحجز الفندقي المسبق، أكدت له أنني لا أحمل المبلغ؛ لأنني مدعو إلى لقاء رسمي، وهناك حجز فندقي باسمي، اتصلَ بفندق (الريفيرا)؛ ليتأكد من صدق أقوالي، وبعد أن أكَّد له موظف الفندق ورود اسمي في كشوف الحجز سمح لي بالدخول.

على جواز سفري كتبوا: خمسة أيام سياحة، وعليَّ مغادرتها قبل انتهاء المدة وإلا فالمنع سيثبت على اسمي وجواز سفري.

ساعة ونصف من الأسئلة والاستفسارات، والتهديد المبطن بمنعي من دخولها خمسةً وعشرين عامًا مقبلًا.

على البوابة كان زملاء السفر بانتظاري، وأبلغوني أنهم لم يتركوا أحدًا من أمن المطار إلا وسألوه عني، وكانت الإجابات متطابقة: لقد خرج من المطار.

في سيارة الأجرة انطويت على روحي، وانكمشت على نفسي، في السيارة التي قطعت بنا شوارع بيروت باتجاه الفندق. المشاهد الأخيرة التي حملتها بداخلي حين أُجبرت على مغادرة سورية، تمر أمام عينَّي بتطابق غريب، المدرعات والمجنزرات وأكياس الرمل والحواجز والتفتيش والتدقيق بالهويات وجوازات السفر، وعلى أصابعي رحت أعد الأيام التي تفصلني عن مغادرتها مكرهًا.

وضعت نفسي في الإقامة الجبرية في الفندق، وحبست رغباتي عن الخروج، رحابة بيروت تضيق، وألفتُها تتبدد، وصورتها المحببة تتغير، وتتحول إلى تهديدٍ دُمغ على جواز سفري؛ كي يذكرني ما بقيت حيًا بأن بيروت الرفيقة والرقيقة قد تبدلت وتغيرت.

في الصباح المحدد لسفري أفقت مبكرًا رغبة مني في مغادرة الغرفة المغلقة، ارتديت ثيابي على عجل، كانت الأمطار تهطل بغزارة والشوارع مقفرة، وراح البرد يتغلغل في عظامي، وعيناي تسابق عجلات السيارة التي أعادتني إلى المطار، ومن داخلي ارتفعت الآهات الحبيسة: كيف تحولت بيروت إلى غصّة في قلوبنا وأرواحنا؟

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق