لم تستوقفني طويلًا وجوه الناس الذين يشغلون الطاولات التي تقع في المنطقة التي يرتداها المسنون في المقهى، فقد غدت أغلب الوجوه معروفة لي مع مرور الزمن. عادة، هناك طاولة يشغلها يونانيون، وأخرى من أرمن العرب (لبنان، سورية، العراق، مصر)، وثالثة من الطليان، وطاولتنا السورية المطعمة أحيانا بلبنانيين، إضافة الى طاولة لبنانية أو أكثر، ويجد المدقق أحيانًا طاولة أو اثنتين من دون هوية واضحة؛ شاب أسود مع صبية شقراء، أو العكس، أو عربي مع كيبيكي، لا نسمع ما يقولان، لأن العربي يضطر لمجاراة جليسه الكيبيكي، فيخفض طبقة صوته، ويحرمنا بذلك من متعة النمّ -في ما بعد- عما سمعناه منهما. الطاولة الجديدة التي كانت ملاصقة لنا من جهة الشرق، كان يجلس حولها مسنان آسيويان، من الصعب على شخص مثلي، أو من ثقافتي، أن يميز من أي بلد في جنوب شرق آسيا هما؛ قد يكونان صينين أو فيتناميين، أو من كوريا أو تايلاند، ولكن -بالتأكيد- ليسا من اليابان، على الرغم من أن الشكل الخارجي يتشابه، ولكن يظل مظهر اليابانيين الخارجي يدل أكثر على الغنى، لذلك؛ أوعزت إلى نفسي ممارسة الفوقية والعنصرية ضد هذه الطاولة ”غير البيضاء“، والفقيرة، فأشحت بنظري عنها، وفعلت مثلما فعل وزير خارجية نظام الاسد، الذي يعدّ رسميًا، وزير خارجية جميع السوريين، رغمًا عنهم، عندما قرر حذف خريطة أوروبا من الخريطة العالمية، فقررت -بدوري- حذف هذه الطاولة من دائرة نظري.
لا أعرف كم من الوقت قد مضى، وأنا أدير ظهري للعجوزين، عندما سمعت حركة كرسي ورائي، فالتفت لأرى أن السيدة قد اقتربت بكرسيها مني، وكادت أن تلامس ظهري، وعندما اجتاحت نظراتي وجهها، افترّ ثغرها المتغضّن عن ابتسامة “آسيوية”، تكاد من لطفها تلامس الأرض، أو هكذا خُيّل إلي، وقالت: عفوًا سيد، هل توجد خدمة إنترنت مجانية هنا؟
كنت نافشًا ريشي مثل ديك على مزبلة، وواضعًا أمامي على الطاولة هاتفي الذكي والآيباد، أعبث بهما كلما مر أحدهم بقربي، للتدليل على ”تميزي“ المالي والمعرفي “الإنترنتي”، مثلما ”رئيسنا“ الشاب، الذي مازال يفتخر بأنه هو من أدخل الإنترنت للسوريين، ولولاه لكانت سورية ما تزال تغرق في ظلام الجهل الذي فرضه والده، على الرغم من الأنوار القوية التي تسطع مع كل قنبلة تنفجر برأس السوريين، وإليه يعود فضل ”تفجير“ معارف السوريين، وتدمير حواضرهم، حتى أن أحد الغربيين الذين يتابعون وضع اللاجئين السوريين في أوروبا بقلق، توقع أن يكون، حكام أوروبا، نتيجة هذا ”الانفجار العظيم“ من اللاجئين السوريين أو من نسلهم، خلال عشرين عامًا، وسيكونون هم ”الخلايا الإرهابية“ النائمة التي تحدث عنها المفتي حسون، بعبقرية تفوق الوصف، عندما هدد أوروبا التي تعادي الأسد.
قلت لها: طبعًا “مدام” يوجد إنترنت. أخرجتْ من محفظتها النسائية البالية آيباد أحدث من أيبادي، وناولتني إياه؛ كي أوصله بالشبكة المحلية، ففعلت، وأعدته إليها، مع ابتسامة تكاد تقول “شوفوني”. سألتني في حياء، وهي تشكرني، إذا كنا، تقصد من هم على الطاولة، من الجزائر؟ قلت لها: نحن من سورية. قالت: آسفة، ولكنكم جميعا تشبهون بعضكم، ومن الصعوبة تمييز السوري عن المصري عن الجزائري. وتذكرت طرفة كان قد رواها المرحوم ممدوح عدوان، فقد سأله مرة الملحق الثقافي الياباني، وكان صديقه: ممدوح، كيف تميزون بعضكم بعضًا، فقهقه ممدوح بطريقته الصاخبة المعروفة، وقال: نحن؟ نحن كيف نميز بعضنا، فماذا نقول عنكم إذن.
قالت المرأة العجوز: التقيت قبل فترة، في أحد مستشفيات مونتريال، بامرأة سورية. حاولت أن أخفف عنها وأواسيها، لاعتقادي المسبق أنها قد تكون، هي أو أحد اقربائها او معارفها، من ضحايا نظام الأسد، فكان ردها صادمًا لي عندما قالت: إن رئيسنا من أحسن حكام العالم، وهو لا يمكن أن يتسبب بأذية نملة. قلت لها: إذا كان كما تقولين، فمن قتل مئات الألوف من السوريين، ومن المسؤول عن تهجير نصف السوريين، ولماذا يغامر السوري بحياته من أجل الوصول إلى أوروبا، أو أي بلد آمن آخر؟ ومن دمر المدن والبلدات السورية؟ ومن استخدم المواد الكيماوية في قتل الشعب؟ وبواسطة طائرات مَنْ قُصفت التجمعات البشرية والأحياء في المدن بالبراميل؟ من المسؤول عن إعدام ١٣ ألف معتقل سياسي شنقًا في سجن صيدنايا؟ إنه يشبه ما جرى عندنا في المدرسة التي حولها الخمير الحمر إلى مكان اعتقال وتعذيب عشرات الآلاف من الكمبوديين، والمعروفة باسم ” تيول سلينج “ ، إذ جرى تعذيب وقتل نحو ١٧ ألف إنسان، علاوةً على ما كان يُعرف “بحقول القتل”.
وقبل أن تتابع المرأة الكمبودية كلامها، وجدتُ نفسي المتضخمة بفعل ريشها المنفوش، قد تقلصتْ الى نصف حجمها، واستدرت بكامل جسدي، مع كرسيي، نحوها، مدققًا النظر في تفاصيل هذا الجسد الذي وصل الى حواف العدم، ولكنه ما زال يقاوم الفناء، وسألت: هل استطيع أن أعرف عمرك يا سيدتي؟ قالت دون تردد: ٧٨ سنة، وعمر زوجي الذي تراه قبالتك ٨٠ عامًا، وقد تعلمت الفرنسية في أثناء الاحتلال الفرنسي الذي انتهى عام 1953، ونحن هنا نتيجة الحرب التي قادها الزعيم “بول بوت” والحزب “القائد”، المعروف بـ “الخمير الحمر”، ضد الشعب، ما بين عامي 1975 و1979، وكان من نتيجتها قتل ما يقارب ثلاثة ملايين كمبودي من أصل ١٤ مليون، هم عدد سكان كمبوديا، ولجوء الملايين داخليًا وخارجيًا، مثلما حدث ويحدث مع الشعب السوري الآن.
تابعت العجوز الكمبودية قائلة: وقفت جامدة ومندهشة من رد السيدة السورية اللاجئة إلى كندا، كنت آمل أن وجودها في كندا قد ساعد عقلها على التفتح، ولكنها نسبت كل تلك الأفعال الوحشية واللاإنسانية الى جماعات المعارضة السورية، وقالت حرفيا: “إن مخترعي ومروجي هذه الأكاذيب هم القتلة المجرمون من الجماعات المسلحة أنفسهم، ومؤيدوهم من الذين يصرخون مطالبين بالحرية، لكن لهم ولطائفتهم فحسب، أما طوائف الأقليات من مسيحية وغيرها، فلتذهب إلى الجحيم، إن الأغلبية السنية/الوهابية/الصحراوية تذبح وتختطف وتغتصب أفراد الأقليات، ثم تنوح قائلة: “يا لطائفية وبطش الحاكم”.
قالت الكمبودية: شكرت للسيدة السورية “حقدها” على الشعب السوري الذي يشبه حقد “الخمير الحمر” على الكمبوديين، وختمت كلامي معها؛ طالبة منها أن تجيب نفسها عن سؤالين طرحتهما عليها:
-لو كان الحاكم، مثلما تقولين، عادلًا، لماذا لم يترك كرسي الرئاسة لغيره، يسوس الناس الذين لا يريدونه؟
-ثانيًا، ما دمت سعيدة بهذا الحاكم وحكمه، ماذا تفعلين هنا، لماذا لا تعودين للعيش في جنته؟