أدب وفنون

في ذكرى ميلاده الخامس والسبعين مكتبة سعد الله ونّوس للجامعة الأميركية في بيروت

شهدت العاصمة اللبنانية بيروت، الأحد 19 شباط/ فبراير، إطلاق مكتبة الكاتب المسرحي السوري الراحل، سعد الله ونّوس (1941 – 1997)، في الجامعة الأميركية، بحضور زوجته فايزة الشاويش، وكريمته الروائية الشابة، ديمة ونّوس، ولفيف من المثقفين والكتّاب السوريين واللبنانيين. والمكتبة عبارة عن مكتبة سعد الله الخاصة التي تضم مجموعة من كتب الأدب العربي والعالمي والمسرح والترجمة، إضافة إلى كتب حول تاريخ سورية الثقافي والفكري.

وقد تزامن الحفل مع عيد ميلاد صاحب “الاغتصاب”، الخامس والسبعين، كما كتبت رفيقة دربه، في تعليق لها على جدار صفحتها في موقع “الفيسبوك”، وجاء فيه: “طوال عيشنا معًا، اعتدت أن أهديه في عيد ميلاده بعض الكتب التي تروق له. بعد رحيله راحت تمتعني فكرة إهدائه كتبًا، ربما كان سيقتنيها. اليوم في عيد ميلاده الخامس والسبعين، أهديته هدية ثمينة، أهديته أمانًا ومكانًا لائقًا بمكتبته”. مضيفة: “اليوم سعدالله وديمة وأنا مطمئنين لوجودها في الجامعة الأميركية. أول أمس جرى افتتاحها في بيروت باحتفالية جميلة. اليوم ارتحت يا سعد؛ فبعد عشرين عامًا تمكنت من تحقيق وعدي لك”.

وكانت السيدة فايزة الشاويش قد أوضحت -في منشور سابق- الأسباب التي دعتها إلى وهب المكتبة للجامعة الأميركية في بيروت؛ إذ قالت: “قبل رحيله بشهور سألني سعد: ما مصير المكتبة؟ فقلت له هي في عيوني. فقال: لكنها عبء. قلت: عبء جميل. فأردف: تبقى عبئًا. فأجبت: لا تقلق، ثق بأنها ستكون في مكان لائق. فسألني: كيف؟ فقلت له: دعها للأيام. فرد عليّ: وعد؟ فكان ردي عليه: وهل أخلفت مرة؟”. وتابعت قائلة: “ورحل سعد الله، تاركًا لي غصة في الروح، ومكتبة قيمة، كانت وسيلتي للتواصل معه، ولشعوري بوجوده في فضائي. مرة وكنت واقفة عند إحدى مكتبات الرصيف. (وهي شغفي) وجدت عنوانًا جذبني، تناولته ففوجئت أنه من المكتبة الخاصة لأحد المثقفين الكبار الراحلين. يومئذ اتخذت قرارًا حاسمًا بالتبرع بالمكتبة لإحدى المؤسسات التي تُعنى بالشؤون الثقافية؛ فذهبت إلى وزير الثقافة فنصحني ببيعها إلى إحدى دول الخليج العربي، ويومئذ كان لدي عرض لشرائها من هناك، شكرته للنصيحة، وخرجت.
بعد تفكير؛ لجأت إلى الدكتورة نجاح العطار، نائبة رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة، استقبلتني كعادتها بلطفها المعهود، لكنها أجابت بأسف وصدق لا يوجد سابقة كهذه.
فذهبت إلى جامعة دمشق، وعرضت الأمر عليهم، وللأسف لم يكن حظي أفضل.
في النهاية؛ توجهت إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، أجابوني أنهم بسبب حرصهم الشديد على مكتبة الراحل الكبير التي لا تقدر بثمن، لا يستطيعون أخذها؛ لأن جدران وسقوف المعهد فيها رطوبة عالية، ستتلف الكتب. وأخيرًا قررت أن تكون المكتبة في الجامعة الأميركية في بيروت. تبرعنا بها وقد تبنوها بامتنان واعتزاز شديدين”. وختمت منشورها مخاطبة رفيق العمر: “سعد لقد استقرت المكتبة في مكان لائق”.

إذن؛ مكتبة سعد الله ونّوس الذي سكنت سورية روحه، كان مصيرها خارج البلد الذي أحبه وكتب له وعنه روائع أدبية، قدم كثيرًا منها على مسارح سورية والوطن العربي، وعدد من البلدان الغربية، لا لشيء، إلا لأن النظام السوري، بكل ما فيه من مؤسسات ثقافية، عجز عن حفظ تراث رجل من أهم رجالات الثقافة والأدب في بلادنا في التاريخ المعاصر.

الكتّابة دفاعًا عن الحياة

شكل سعد الله ونّوس بحضوره، بالنسبة إلى كثير من المثقفين والمبدعين السوريين والعرب الضمير المعلن والقادر على الجهر، في مشهد الصمت. وكان أحد علامات الضمير الشجاع الذي بات يتقلص ويندر، وهو صاحب بصمة في المسرح السوري والعربي، اعترف به العالم عندما كُلّف بكتابة كلمة يوم المسرح العالمي عام 1996، وهو شرفٌ لم ينله من قبل كاتب مسرحي عربي غير المصري توفيق الحكيم.

«إننا محكومون بالأمل»، و«في الكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة»، هذا ما كان يردده سعد الله حتى اليوم الأخير من حياته، ولا نستغرب إن كانت فترة صراعه مع المرض العضال أغنى فترة في رحلة عطائه الإبداعي. فقد كثّف إبداعه خلال سنوات صراعه مع المرض. وتحول موته إلى قيامة، كطائر الفينيق نهض من الرماد وعاش في داخلنا، وفي عقولنا من خلال أعماله الكبيرة، ودوره الرّيادي في دفع المسرح السوري والعربي خطواتٍ كبيرة إلى الأمام.

ولد سعد الله ونّوس في قرية «حصين البحر» (شمالي غربي سورية، بالقرب من مدينة طرطوس)، وهو من أسرة فقيرة عاشت ضائقة مالية، وصفها ونّوس بأنها «سنوات بؤس وجوع وحرمان».

وقد كانت أول مسرحية يكتبها في أثناء دراسته الجامعية في مصر عام 1961، بعد وقوع الانفصال بين مصر وسورية، إذ كانت هذه الواقعة بمنزلة هزة شخصية كبيرة، دفعت به إلى كتابتها، وهي مسرحية طويلة بعنوان «الحياة أبدًا».

وبعد حصوله على بكالوريوس الصحافة من كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1963، عاد إلى دمشق، وعمل في وزارة الثقافة، إلى أن سنحت له فرصة السفر إلى باريس عام 1966، لدراسة الأدب المسرحي في «معهد الدراسات المسرحية»، التابع لجامعة السوربون. وهناك وصلته أنباء هزيمة حزيران/ يونيو 1967، فتأثر كثيرًا، وعدّها هزيمة شخصية له. وعبّر عن ألم هذه الهزيمة في مسرحيته التي أخذ بها شهرة كبيرة «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» 1968.
وفي أثناء ذلك عاد إلى دمشق يعاني آلامًا نفسية مبرّحة، جعلته يصف الأربعة أشهر التي أمضاها فيها بعبارة «في بؤس تام وفي شبه غيبوبة». عاد بعدئذ إلى فرنسا التي سرعان ما شدته الحياة الفكرية فيها، وأخرجته من عزلته.

صراع مستمر مع الكلمة والمرض

في باريس أسهم سعد الله في أثناء انتفاضة الطلاب في جامعات فرنسا مع زملائه في إقامة أحد المنابر؛ للتعريف بالقضية الفلسطينية، من خلال الخطب والمنشورات والكتيبات. كان مؤمنًا بالاشتراكية العلمية، منهجًا وأسلوبًا في الحياة، إلا أنه لم يعرف ارتباطًا بأي تنظيم حزبي. وأخيرًا أنهى دراسته في فرنسا عام 1968، وعاد إلى دمشق، فعُيِّن رئيسًا لتحرير مجلة «أسامة» الخاصة بالأطفال، من عام 1969 إلى عام 1975؛ إذ أخذ إجازة من دون راتب، وعمل محررًا في صحيفة «السفير» البيروتية، وعندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، عاد إلى دمشق؛ ليعمل مديرًا لمسرح القباني، فأسس مع شريكه وصديقه المسرحي، فواز الساجر (1948 ـ 1988) فرقة المسرح التجريبي في دمشق، فقدمت عدة عروض.

وفي أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار بيروت عام 1982، توقف سعد الله عن الكتابة لعقد من الزمن تقريبًا، ليعود إليها أوائل التسعينيات بمجموعة من المسرحيات السياسية، بدءًا بمسرحية «الاغتصاب» (1990) التي تدور حول الصراع العربي- الصهيوني، وأثارت جدلًا كبيرًا حينذاك. وفي حوار صحافي معه، قال سعد الله: “إن إحساسي الجنائزي سيتضاعف أكثر وأكثر وأنا على حافة هذه التخوم الرجراجة بين الحياة والموت. أعتقد أن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري”.

وعندما وقعت حرب الخليج عام 1990، عدها الضربة الأخيرة الموجعة. يقول: «أشك معها في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم في أثناء الحرب والقصف الوحشي الأميركي على العراق». وهكذا دخل سعد الله في صراع استمر خمس سنوات مع المرض الخبيث.

ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، كتب سعد الله سبع مسرحيات هي: «منمنمات تاريخية» (1994)، «طقوس الإشارات والتحولات» (1944)، «أحلام شقية» (1995)، «يوم من زماننا» (1995)، «بلاد أضيق من الحب» (1996)، «ملحمة السراب» (1996)، و«الأيام المخمورة» وهي آخر مسرحياته.

وفي عام 1997 أُعلن اكتمال ترشيح سعد الله ونّوس لجائزة نوبل للآداب. وذلك عن ترشيح «المجمع العلمي» بمدينة حلب، ثم أجمعت على صحة الترشيح الأكاديميتان: الفرنسية والسورية. وقد لاحظ الذين كانوا في عيادة مرضه أن سعد الله لم يبتهج ولم يكترث؛ لأن نيل الجائزة ليس في دائرة أحلامه، وقد سرقه الموت بعد أيام قليلة من هذا الخبر، ولم ينل الجائزة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق