ليس من الواقعية التحليلية للأحداث والوقائع والمجريات أن يعتمد الباحث، أو الكاتب، أو المحللُ، في بحثه أو مقاله أو تحليله، على الأحداث التاريخية القديمة، أساسًا لتوصيف الواقع أو تفسير السياسات الراهنة؛ لأن ما ينطبق على حدث زمانيٍّ جرى في عصر معيَّن قد لا ينطبق على مثيله أو نظيره في عصر آخر؛ لاختلاف المعطيات والأسباب التي أدت إلى ما أدت إليه.
غير أنه يمكن إيجاد مسوّغ لهذا الكاتب الذي اعتمد الحدث التاريخيَّ قاموسًا لتفسير ما يجري على الصعيد العالمي من سياسات، أو ما يُطرح من أفكار أو ما يُتَبَنَّى من مناهج ؛ ولا سيما إن كانت معطيات السياسات الحاضرة قائمة على أسسٍ وقواعد تاريخية أو طروحاتٍ عقديَّة، تستند في مجملها إلى حدثٍ تاريخي معيَّنٍ، عندئذ يكون لهذا الاعتماد على الحدث الزمانيِّ في تفسير وإيضاح وتحليل السياسات والعلاقات الدولية الحاضرة مسوِّغٌ؛ إذ لا يمكننا -حينئذ- أن نفصل في – حال من الأحوال – بين سياسة بلدٍ ذي صبغة معينة، أقام نظامه، وأسس دستوره، ووضع سياساتِهِ -كلَّها- في خدمة وجهة نظرٍ مبنية على حدث تاريخي، استطاع تكريسها بين أفراد الشعب؛ حتى أضحت هذه النظرة التاريخية جزءًا من الثقافة الجمعية للمجتمع عامَّةً، وبين هاتيك النظرة التاريخية التي تعدُّ ركن قيام دولته ونظامه؛ لأننا لو لم نعتمد ذلك، لكان من الصعوبة بمكانٍ أن نفسِّر كثيرًا من حالات الصداقة والعداء والتقارب والتباعد، في السياسات المنتهجة لتلكم الدول المتقوقعة ضمن نظرة أحادية تاريخية ضيِّقةٍ.
لعلَّ إيران – بما تمثله اليوم من إشكاليَّةٍ سياسية وثقافية وأيديولوجية لمنطقتنا العربية، بحكم الجوار الجغرافي – هي المثال الصارخ لتلك الدولة التي لا يمكن أن نفسِّر نهجها السياسي المعادي لشعوب منطقتنا إلا إذا فهمنا طبيعة الفكر الجمعي للشعب الإيراني، المبني على نظرة تاريخية وزمانية غابرة، وإلا فإن كلَّ التحليلات ستكون سرابَ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً.
لقد استطاعت الحكومات الإيرانية المتعاقبة، وخاصة بعد الثورة الخمينية المعمَّمة بالسواد، أن تجمع معظم القومياتِ المنضويةِ تحت علم ما يسمى بـ “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” بالاختيار أو بالإكراه، تحت أكذوبة تاريخية تدعى بـ(بالمظلومية)؛ إذ تمكَّنت هذه الحكومات من خلال هذا الطرح التاريخيِّ، أن تُثير عاطفة الجموع والغوغاء؛ ليكونوا أداةً لحماية “الثورة” المزعومة، التي ترفع شعارات رفع المظلومية والانتصار للحقِّ.
إن إيران اليوم بهذا الفكر الطائفي الذي تتبناه، وبَنَتْهُ على أطلال حدث تاريخي غابر، هي ذاتُها إيران قبل قرونٍ خلت؛ الفِكرُ هو الفِكر والنهجُ ذاتُ النهج، وكيف لا يكون ذلك والْمُطَّلِعُ على التاريخ عامة، و تاريخِ الدولة الصفوية في إيران خاصة، يستطيع وبيُسْرٍ، أن يكتشف أن إيران اليوم هي صورة مطابقة للدولة الطائفية الصفوية التي اتخذت التاريخ مسوغًا لوجودها، وطرحت الشعارات ذاتها التي طرحتها وتطرحها إيران الحديثة اليوم، ومن ثَمّ؛ إنَّ فَهْمَنَا لما تنبني عليه سياساتُ إيران العدائية لجيرانها العرب، من خلال فهمنا لطبيعة الصيرورة التاريخية والزمانية، التي استندت إليها الثقافةُ الجمعية للشعب الإيراني، بفعل الدعم الذي تلقاه هذه الثقافة المستندة إلى الحدث التاريخي أساسًا لتكوينها، وتقويتها من السلطة القائمة في إيران، ستساعد، وبما لا يدع مجالًا للشكِّ، في تحديد طرقِ وعلاجِ الظاهرة الإيرانية الخطِرة، التي أضحت وباءً خطِرًا، لا بدَّ من إيجاد الحلول الناجعة له.
إن أيَّ تحليلٍ لواقع السياسات التي تنتهجها الحكومات في إيران، لا يستند إلى معطيات التاريخ الذي تصدر عنها هذه السياساتُ، سيكون خبط عشواء؛ لأنَّنا بذلك نكون قد ابتعدنا -إلى حدٍّ كبيرٍ- عن الواقعيَّة التحليلية التي يجب أن يتحلَّى بها المحترفون لفكرة التَّحليل السِّياسي، ومن ثَم؛ فإنَّنا إذا أردنا فهمًا حقيقيًّا لمجمل السياسة الإيرانية الخمينية اليومَ، يجب علينا -يقينًا- أن نسبر التاريخ الإيرانيَّ، منذ الحقبة الصفوية الإقصائيَّة؛ وحتى يومنا هذا؛ لنتمكن من الإحاطة الشاملة بالفكر الذي بنى أصحاب العمائم السوداء عليه دولتَهم التي أرَّقت، منذ قيامها وحتى الآن، مضجع العالم عامَّةً، وجيرانها من العرب خاصَّة، ذلك؛ لأنَّ إيران الخميني اليوم، هي ذاتها إيران إسماعيل الصفوي بالأمس، مبنيَّةٌ على فكر أُحادي الاتجاه، إقصائيِّ المعتقدِ، يعتمد القتلَ سياسةً، والإبادة فكرًا، والإرهاب منهجًا واستراتيجيَّةً؛ لتخويف المخالِفِ، وتحقيق المصالح، وبناء السياسات، والأدلَّةُ على ذلك أكثر من أن تُعَدَّ أو تُحصى، وما أشبه إبادة الباسيج الإيرانيِّ للشعب الأحوازيِّ اليومَ، بقتل علمائهم، وتعليق مثقَّفيهم على أعواد المشانق، وسجن المخالفِ منهم للنهج الخمينيِّ، بالإبادة التي ارتكبها الشَّاه إسماعيل الصفوي في مدينة تبريز الإيرانية عام 1501، حين أُضرمت النار في الجثث، وشُقَّت بطون الحوامل، واغتُصبت النساء، وقُتل الرجال، وهُدمت المنازل على رؤوس ساكنيها.
وما أشبه عمالة إيران لأعداء الأمَّة اليومَ – مع إطلاقها لشعارات المقاومة والتَّصدي الجوفاء التي باتت لا تنطلي على أحدٍ – بما فعله الشاه إسماعيل الصفوي من التحالف مع البرتغاليين (البوكيرك)، عام 1507، يُمكِّنُهم فيه الشَّاه من احتلال القطيف العربية، مقابل مدِّ يد العون للصَّفويين للانقضاض على العرب والدولة العثمانيَّة.
هذه هي إيرانُ الخمينيَّةُ اليومَ، مصطلحٌ تُختزل فيه كلُّ مظاهر الشُّعوبيَّة والإرهاب والظلم والقسوة والإقصاء للمخالف، والتآمر مع أعداء الأمة التي يحلو لبعض السُّذَّجِ من المحلِّلين والمثقفين والسياسيين من أبناء جِلدتنا أن يجعلوا من إيران جزءًا منها؛ بل ركنًا ركينًا من تكوينها وثقافتها.
وإذا كنَّا نُبغض هذا النهج في السياسات الإيرانيَّة اليومَ بالتآمر على العرب، جيران الجغرافية والتاريخ، إلَّا أنَّنا لا يمكن أن ننسى أنَّ كثيرًا من شرائح الشعب الإيرانيِّ تتخندق معنا في خندقٍ واحدٍ، ضدَّ هذا النهج التدميريِّ المعتمد على تصدير ثورةٍ قاتلةٍ، لم تجرَّ على إيران إلَّا عَداءَ الجيران، وإحجام الأصدقاء، ومزيدًا من العزلة الدوليَّة، وهؤلاء قد يكونون نواةً لثورةٍ تصحيحيةٍ مضادَّةٍ في الفكر الجمعيِّ الإيراني، تنتقل بإيران من دولة تعيش على استيراد أحقاد التاريخ، إلى دولةٍ معاصرةٍ ذات فكرٍ منفتحٍ وسياساتٍ تصالحيَّةٍ مع الجيران والعالم، ولن يكون ذلك ممكنًا، إلَّا إذا تضافر الجهد لتشكيل جبهةِ دعمٍ لمثل هذه الشرائح؛ لتتمكَّنَ من العمل وقلب الطاولة على ذوي الفكر المعمَّم، وهذا لن يتمَّ إلا بخطَّةٍ إقليميَّةٍ شاملةٍ لاجتثاث هذا الورم الخبيث الذي بات يمتدُّ أكثر وأكثر في ظلِّ حالة التشرذم وانعدام الموقف الموحَّدِ من التَّدخُّلات الإيرانيَّة في الشؤون العربيَّة.