تحقيقات وتقارير سياسية

بين إسبانيا وسورية… قصةُ الأصنام التي هَوَت

حفّز مشهد عودة تمثال حافظ الأسد الذي نُصب من جديد، في 13 شباط/ فبراير من العام الجاري،  وسط ساحة تقع على امتداد مدخل مدينة حماة الجنوبي (210 كم شمال العاصمة دمشق)، ذاكرة نصف مليون مواطن، في الأقل، استرجعت مخيلتهم، شريط ذكريات حزين، يضم صور أبناء، أو إخوة، أو أقرباء، أو أصدقاء لهم، لقوا حتفهم في مذبحة جماعية، ارتكبتها قوات الأسدَيْن: حافظ وشقيقه رفعت، في شباط / فبراير من عام 1982، راح ضحيتها نحو 40 ألف مدني، أُعدموا رميًا بالرصاص، ودُفنوا في مقابر جماعية، أُعدّت على نحو عشوائي شرق وشمال المدينة.

وفق منطق التاريخ “عاشت حماة ومات الأسد”، وبحسب منطق الدولة المتوحشة بجذورها العميقة، لم تمت الفاشية التي هيمنت على سنوات حكمه (1970- (2000، وبقيت عروقها تنبض بين أحضان البعث، يرعاها وينمي أصولها، كإرث أمني وسياسي، توقعت المؤسسة الأمنية أن تزداد الحاجة إليه، في ظل أوضاع مستقبلية، تدرك حجم الخطر الذي تشكله على النظام.

في توقيتٍ واحد، مات الأسد الأب وعاش الأسد الابن، ووفق قواعد الصراع، تطلب استمرار حكم الوارث، أن يستعين بإرث والده، كان عليه ألا يتباطأ في قمع ربيع دمشق. وفي مقاومة أي تغيير، من شأنه أن يأتي بالديمقراطية إلى بلد لم يعرف تداول السلطة طوال نصف قرن.

خشي الأسد أن يطيح به شعار “سورية بدها حرية” الذي رفعه المتظاهرون علنًا مطلع عام 2011، فجند قواه، مستعينًا بأصدقاء وحلفاء أجانب، يساعدونه في قمع “ربيع بلاده” وتدمير حاضنته الشعبية، وحواضرها المدينية الآهلة بالسكان، في آن معًا.

ما شهدته سورية بين عامي 2017و 2011، يفوق -حقيقة- ما ارتكبه الأب، في حماة عام 1982. ومن المفارقة أن تمر المذبحة التي هزت ضمير المجتمع الدولي آنذاك، من دون عقاب، وأن تتحول بعد أن أسست لمذابح أخرى، مجرد ذكرى تاريخية أليمة، لم يبق من آثار جريمتها غير أحزان أناس فقدوا ذويهم، ومقابر لا شواهد لها، وتمثال ضخم طوله ستة أمتار لرئيس أسبق، لم يستطع أن يبقى حيًا إلى الأبد ـ كما أراد جمهوره ـ فرحل، قبل أن تقتص منه العدالة، وتنعم أرواح القتلى الأبرياء بالهدوء والطمأنينة والسلام.

دفعت حماة ثمنًا باهظًا، عشية تمردها الشهير، وكان من الصعوبة بمكان أن تشهد عودة تمثال بطل المجزرة إلى القاعدة التي اقتلعته منها، في العاشر من حزيران/ يونيو 2011، صاغرةً قوات أمن النظام، قبل أن تحطمه الجموع التي تدفقت محتجة على مصرع نحو مئة من أبنائها، خلال تظاهرة شهيرة، سقطوا وهم يحملون الورود بأياديهم.

وطوال السنوات الست التي مضت، لم يهدأ بال الوارث، فقد شهد بعينيه انتزاع النُصب صباح اليوم الذي حلت فيه الذكرى 11 لوفاة صاحبه، وعزّ عليه أن تتواصل طقوس الحزن السنوية من دون أن يَحضر -كما هي العادة- ظل القائد المؤسس ـ هكذا وُصف في حفل إزاحة الستار ـ فأراد أن يرد الصفعة للمدينة، ويذكّرها من جديد بهولوكست عام 1982، بوصفه خيارًا مفتوحًا، عندما قرر أن يكون شباط/ فبراير، الذكرى الـ  35 للمذبحة، موعِدَ عودته.

في تطابق المسارات، صعد الأسد الأب إلى حكم سورية بالدبابات، وصعد فرانكو حاكمًا لإسبانيا بالبنادق والمدافع، ومثلما خشي الأخير الانقلاب عليه، ورصد أموالًا ضخمة لأجهزة المخابرات؛ من أجل حمايته، عاش الأسد الهواجس ذاتها، فكانت أولى خطواته أن غربل المؤسسة العسكرية ممن يشك في ولائهم له، ثم أزاح خصومه في البعث؛ ليؤسس -بعدئذ- جمهورية رعب، تشرف على إداراتها أجهزة استخبارات ضخمة، منحها صلاحية اعتقال أو توقيف أي مواطن، من دون أي مساءلة.

حمل الأسد ذو الهالة الأسطورية لقب الأب القائد، وهو اللقب الذي اشتهر به، ودخل عصر أنصاف الآلهة، إلى جانب الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي لقّب نفسه -أيضًا- بـ “الكاوديللو” أي زعيم الأمة، أو، أبَ إسبانيا، على غرار هتلر “الفوهرر” وموسوليني “الدوتشي” (تحمل الألقاب الأربعة المعنى نفسه). وفي عام 1975 مات فرانكو الذي حكم بلاده بقبضة حديدية، ونفى خارج حدودها أكثر من نصف مليون مواطن، وأعدم نحو 250 ألف آخرين، بينما امتلأت سجونه بالمعتقلين. وبرحيله طُويت صفحة حكم فاشي سوداء. لا شك في أن فاشية الأسد الحالي تتفوق عليها من حيث القسوة والرعب والتوحش.

مثل حماة، أزالت سانتاندير، المدينة الساحلية، قبل سنوات، آخر ما تبقى من تماثيل الطاغية فرانكو، رافضة بقاء كل ما يذكر الإسبان برمز الاستبداد والقهر والموت، الذي أذلّ شعبه، وخطف حياة مواطنيه لسنوات طويلة.

وبخلاف سورية، صححت إسبانيا صورتها، في مرحلة لاحقة، ونجحت في إقرار قانون الذاكرة التاريخية (Historical Memory Law) الذي نص على إزالة آثار ومخلفات نظام فرانكو، كتماثيله ولوحات الشوارع المسماة بأسماء جنرالاته، وتقديم المساعدة الحكومية لأفراد عوائل ضحاياه.

لكن الأسد الابن، وبدلاً من تصحيح مظالم الأمس، يصر على قيادة تحالف عسكري فاشي، متعدد الأصول، ليعيد إنتاج سلطته، ويعزز نظامه الفاشي الأحادي الطائفي المستبد، مرتكبًا مذابح جماعية، وحملات تهجير وتطهير، تفوق ما شهدته حماة، على يد والده، قبل 35 عامًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق