أدب وفنون

سرُّ الكتابة وجمالياتها

أين تراه يكمن سرُّ الكتابة وجوهرها؟! أعني الكتابة التي تشدُّ قارئها، منذ أسطرها الأولى، الكتابة التي تجعل القارئ العاديَّ يتابعها بإعجاب وشغف! أتراها تلك التي تجعله يتابع مفرداتها المنتقاة بعناية، أو جملها المصوغة باحتراف ومهارة؟ أم هي الكتابة التي تفصح للقارئ، لا عن نفسها فحسب، بل عمَّا يجول بخاطره، إذ تقنعه بأنَّها الحق، فتأتي له بما يراه من حقائق الحياة، ومشكلاتها، وإن على نحو نسبي، فتجعله يهمس لنفسه، وهو يتابع: هذا ما كنت أود أن أقوله، أو أكتبه…!

لا أريد الاستشهاد بما قيل في مجال الكتابة، فهو كثير جدًا، ولكنني أقول:

إنَّ الكاتب الجيد، مهما كان الميدان الذي يجول فيه، ومهما كان الجنس الذي تنتمي إليه كتابته، هو ذلك الذي يترك شيئًا من نبض روحه في سطوره، وبين مفرداته، ما يكشف عن صدقه، في ما يقوله، بعفوية تستند إلى حساسية مفرطة، تقيسها على ما في ضميره الفردي، أو ضمير المجتمع الذي ينتمي إليه، من تراكم للقيم الوطنية والاجتماعية والإنسانية، وعلى ما يراه في الواقع من تجاوزات، وافتئات عليه!

ولعلَّ الذي يأتي في هذا الإطار، هو ما دوَّنه الصحافي مصعب الحمادي، في كتابيه الأول: “غرفة في جبل شحشبو”، والثاني: “وطن في سوق النخاسة”*.

وإذا كان قدّر لي الاطلاع على الكتابين؛ فإنني أرى أنَّ الكاتب قد سجل في كتابه الأوَّل ملاحظاته الأولى التي تقترب، على نحو أو آخر، من ذكريات عاشها في ريفي حماة وإدلب، منذ بدايات الاحتجاجات الشعبية الأولى التي انضم إلى صفوفها، وتفاعل مع أحداثها، وذهب بعيدًا إلى ما تمنحه تلك البدايات من فرح تأتي به أحلام المتظاهرين البريئة في وطن جديد، تفتِّح ورودَه نسائمُ الحرية، ومجتمع ناهض، ينطلق، بعد تحطيم قيوده، لإعادة صوغ حياته على نحو مدني يستقي أسس بنائه من حضارة العالم المعاصرة، وليفسح في المجال أمام أبنائه المبدعين للارتقاء بكل ما يليق بوطن يعشق ويمجَّد..!

نعم إنَّ كاتبنا كان هادئًا في تجربته الكتابية الأولى، فنقاء الثورة السورية كان الغالب على تفكيره، إذ كان واثقًا، على الرغم من الهَنَاتِ التي تبرز هنا وهناك، بأنها ماضية، بثقة وحزم، نحو غاياتها المرجوة، غاياتها التي تفرضها الشروط الموضوعية القائمة في سورية، قبل العام 2011. حتى إنه، ومع بعض الدلائل والإشارات اللافتة التي قابلها بحذر، لم تأخذه إلى الانفعال! بينما نراه، هنا، في كتابه الجديد: “وطن في سوق النخاسة” أكثر توترًا، وأكثر انفعالًا، ويكاد أحيانًا، من ضيق واحتقان، يقف على حافة الشتائم، ولعلَّ القارئ يغفر للكاتب، إذ يرى صدقه، ويتلمس نبض مرارة حروفه، وهي تعكس الواقع الحزين، في إشاراتها إلى عمق المهاوي التي أوقع فيها الظلاميون الجهلة الثورةَ السورية، فأبعدوها عن غاياتها النبيلة، وكيف لا، والكاتب يشهد هذا المزاد العلني لوطن هو التاريخ عراقة وأصالة وفخارًا..؟!

صحيح أن ما كتبه مصعب الحمادي، لا يعدو أن يكون مقالات صحافية، قد تفتقر، أحيانًا، إلى الأرقام، والوثائق، وإلى ما يحتاجه الباحث الموضوعي في الشأن العام! لكن ذلك لا يضعف مادة الكتاب، إذ إنَّ قوَّتها جاءت من صدق الكاتب، ومن معايشته مسار الثورة السورية، وثالثًا من نقده الجاد، والموضوعي لهذه الظاهرة النشاز أو تلك..! وأجزم بأن القارئ الفطن سيتلمس نبض قلب الكاتب على وطن عزيز ضاع، أو كاد أنْ يضيع، بين مطرقة مستبد طاغ، قاده استبداده ليكون ألعوبة بيد الأغراب الطامعين، وسندان ظلامي مأجور، اتخذ من الإسلام رداء، ليشيع في جنبات سورية الخراب والتخلف.

ولئلا يبقى الكلام معلقًا، لابد من الإتيان ببعض الشواهد، نختارها من بين أربعة وعشرين عنوانًا ضمَّها الكتاب بين دفتيه. فتحت عنوان: “نِعْمَ البلدُ هذا للعدوّ!” يشير الكاتب إلى الحال السورية فيقول: “صارت سورية أشلاء وطن، وفقد أهلها القدرة على محبة بعضهم بعضًا، وهذا أخطر ما طرأ على السوريين في السنوات الخمس الماضية، فهو، أي الوطن، للطامع في خيرات البلاد، نعم المطية، كي يمضي في تقسيم سورية ونهبها، ثم ليتركنا لغياهب الموت، بعضنا يقتل بعضه الآخر، بلا شفقة ولا رحمة”.

ويستشهد على ما يذهب إليه بالمؤرخ البلاذري: يقول البلاذري في كتابه “فتوح البلدان”: إن هرقل عندما غادر سورية إبان الفتح العربي، وهو في طريقه إلى القسطنطينية، التفت وراءه، في نظرة وداع، وقال: “عليك يا سورية السلام، ونِعْمَ البلد هذا للعدو!”

وفي نقده لأسلمة الثورة، ولجماعة الإخوان المسلمين تحديدًا، بعنوان: “ماذا يريد الإخوان المسلمون؟” يستشهد الكاتب بقول للمراقب العام، الدكتور محمد حكمت وليد، عن أصول الحكم في الإسلام: “أصل الحكم في الإسلام هو المضمون بتطبيق الشرع والعدل بين الناس.”

كان الكاتب قد حضر بالمصادفة في آذار 2015 لقاء لصاحب القول السابق، فعلَّق عليه، بعد أن أتى على وصف مكان الاجتماع ورفاهه، بأنَّ فهم الشرع وتفسيره يتباين بين قضاة هذه الأيام، وخصوصًا إذا كانوا من أنصاف المتعلمين والمتفيقهين.. ويتابع فيقول: “إن أول من جلد الناس في الشوارع كالبهائم هم حركة أحرار الشام الإسلامية، وليست داعش، وأول من ضيَّق على النشطاء [الناشطين] وقسم الشعب السوري إلى إسلاميين وعلمانيين، هي الجماعات ذات العلاقات الإخوانية الوثيقة، وهي معروفة للجميع”.

ولا يستثني الكاتب الإعلاميين، وهو منهم، من قلمه الجريء، إذ يقول في الفقرة التي استعار عنوانها؛ ليكون عنوانًا للكتاب “وطن في سوق النخاسة”؛ فيقول عنهم: “والأصوات الإعلامية النافذة التي طالما عوّلنا عليها لتنطق باسم الثورة وباسم الشعب المنتفض، وتكون لسان حال هذا الشعب المسكين، تحولت بقدرة رب الدولار إلى أبواق طائفية حقيرة، مهمتها زيادة لهيب النار التي نحترق بها، وجعل الحلم الذي ننشده بوطن يشملنا جميعًا، بعيد المنال، على الرغم من كل الدماء والتضحيات التي تُبذل. ونحن النشطاء [الناشطين] الذين لم نقترف السياسة قبل الثورة، وجسّدنا ببراءة حلم شعبنا بالعدالة والكرامة والمساواة، حتى عجز النظام عنا، تم إرسال تنظيم القاعدة لنا، كي يقتل من يقتل، ويطرد من يطرد إلى الخارج، بالتواطؤ مع قوّادين ونخّاسين من العيار المحلي الرخيص، يقبضون بالعملة المحلية، ويقبلون بأثمان قليلة لخدماتهم كونهم سيصبحون، -بعد أن تتحول مناطقهم إلى صحراء قاحلة- من أصحاب الرأي والكفاءة [الكفاية]، إلى ديوك شبقة صادحة لا يشقّ لها غبار بين دجاجاتها، وعلى مزابلها”.

وبعد، كثيرة هي القصص، وكثيرة اللقطات التي تميِّز الكتاب، وحسب الكاتب أنه دوّن إحساسه بصدق، ووظف معرفته وخبرته بمسؤولية، وكرمى لسورية الحرية.

—————————

* الكتاب “وطن في سوق النخاسة”،

صدر أواخر شباط/ فبراير 2017 عن دار نون4 في غازي عنتاب،

ويقع في مئة صفحة من القطع المتوسط.

مقالات ذات صلة

إغلاق