إنني على يقين من أنه لا يوجد دين على وجه الأرض احترم المرأة وكرَّمها كالإسلام؛ ولا يوجد مجتمع قهر وظلم المرأة كالمجتمع الإسلامي! وإن قارنت ما بين الإسلام، من خلال أصوله وسلوك النبوة، مع سلوك المجتمع الإسلامي ذي العقلية الذكورية، ستجد خلطًا عجيبًا في معاملة المرأة بين عادات المجتمع وتعاليم الإسلام! وكأن النبي كان خائفًا من هذا الخلط وتلكم التقاليد؛ لذلك كانت آخر وصاياه قبيل وفاته: “استوصوا بالنساء خيرًا”.
ولو درست القفزة الحقوقية التي حققها الإسلام في عصر الرسالة في مجال حقوق المرأة، وقارنته بعصور الانحطاط والتخلف سيتضح البون الشاسع ما بينهما، إذ انتصرت العقلية الذكورية وثقافة القبيلة على تعاليم الإسلام؛ لتشكل ردّة جاهلية؛ سلبت المرأة حقوقها التي نالتها من خلال رسالة الإسلام، وكأن حقوق المرأة مرتبطة طرديًا بتقدم المجتمع وتخلفه، وهذا يعني أنّ ما أصاب المرأة في مجتمعاتنا من حيف؛ الإسلام بريء منه!
شهادة المرأة هل هي نصف شهادة الرجل
من القضايا التي شغبت فيها التقاليد على التعاليم؛ شهادة المرأة، وفي هذا الجانب نجد أنفسنا أمام مسلم جاهل بحقيقة دينه؛ وعلمانوي مغال في اتهام الإسلام! فالأول فهم خطًأ أن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل! والثاني جعل هذا الفهم الخاطئ حجة على الإسلام! فلا هذا أصاب ولا ذاك.
يستشهد من لا يعرف حقيقة هذه المسألة بالآية الكريمة:
وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى. البقرة:289.
الآية تتحدث عن إشهاد لواقعة التداين؛ وليس عن شهادة أمام القضاء، ففي الآية يأمرنا الله عز وجل أن نحفظ حقوقنا المالية بكتابتها؛ وأن يكون الكاتب طرفًا ثالثًا؛ كي تبقى الحقوق مصانة، فلو كانت الواقعة أمام امرأة قريبة للمدين، ربما يغلب عليها تعاطفها معه؛ فطلب أن يكون شهود الحدث أكثر من امرأة؛ كي لا يغلبها ميلُها الرَحَمي، لذلك؛ قال(تَضِلَّ) وليس صحيحًا أن معنى (تَضِلَّ) هنا أي تنسى! إنما تضل هنا أي تنحرف عن الحق، وفعل(تَضِلَّ) من الضلال وليس من النسيان كما ذهب كثير مِمَنْ فسّر الآية.
ولو تتبعنا (ضلَّ) في قواميس اللغة سنجد أنّ معناه هو الانحراف عن الحق باتجاه الباطل! وليس النسيان! ومن مرادفات (الضلال) في القاموس الافتراء والجنوح والكذب! ومن أضداده الهداية والرشد والاستقامة والصدق، فلا علاقة للنسيان هنا إطلاقًا؛ ولقد بيّن القرآن أنّ ضِدّ الضلالة هو الهداية وليس النسيان:
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ. البقرة:16.
ولقد وضع المقابل لـ(تَضِلَّ) في الآية(فَتُذَكِّرَ) والتذكير -هنا- وعظ الضال عن الحق؛ ليعود إلى رشده ويتبع الحق، إذن؛ (فَتُذَكِّرَ) من التذكرة أي ما يبعث على العظة والعبرة، فوجود امرأة ثانية -هنا- لوعظ التي ضلت وانحرفت وجنحت عن الحق؛ لتعود إلى جادة الصواب؛ ويبيّن القرآن معنى التذكرة بقوله (إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى) طه:3. أي عبرة وعظة.
ولاحظ في الآية ذاتها تكرار كلمة (إِحْدَاهُمَا) فلو قال: فتذكر الأخرى. دون ذكر كلمة(إِحْدَاهُمَا) لكانت شهادة واحدة! وكذلك لو قال: فتذكرها الأخرى لكان البيان من جهة واحدة، إنما كررها لتعظ المهتدية منهما مَنْ ضلت.
كذلك الآية تتحدث عن واقعة مالية الواجب فيها على الدائن توثيق الدين بواسطة طرف ثالث، وبوجود شهود على الواقعة من ذكور أو إناث؛ كي لا تضيع الحقوق، وتتقطع الأرحام؛ نتيجة الخلافات المالية.
شهادة أم إشهاد
المشكلة في الخلط ما بين الشهادة والإشهاد في هذه الآية، فالآية تتحدث عن إشهاد لا شهادة؛ إشهاد بحضور الواقعة، حتى إذا طُلب الشهودُ للشهادة يدلون بها؛ وهذا الإشهاد ليس أمام القاضي، إنما حضور للواقعة المالية.
أما الشهادة فتكون أمام القاضي، أو الحَكم؛ لتَبيُّن الحق، والحكم بالعدل المؤسس على البيِّنة، ففي الشهادة أمام القضاء تتساوى المرأة بالرجل، ومعيار الشهادة لا يتعلق بالذكورة أو الأنوثة، وإنما باطمئنان القاضي إلى صدق شهادة الشاهد، ذكرًا كان أم أنثى.
وللقاضي الحق في أن يحكم في قضية ما إذا اطمأن للبينة، وفق القوانين المرعية، دون حسبان لجنس الشاهد، فقد تتطلب قضية ما رجل واحد، أو امرأة واحدة، أو أكثر أو أقل، ولكنّ شغب العقلية الذكورية والأميّة الإسلامية دفعت كثيرًا من المسلمين؛ ليظنوا أن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل؛ أما الصواب، فإن شهادة المرأة في الإسلام كشهادة الرجل.
فالمرأة شهادتها في رؤية هلال رمضان كشهادة الرجل تمامًا؛ وهي شهادة متعلقة بفعل عبادي شعائري، يمارسه المجتمع المسلم، وكذلك في قضية الملاعنة بين الزوجين، ولدينا دليل واضح تعامت أعيننا عنه في المساواة بين الشهادتين، ألا وهو الشهادة عن النبي؛ فقد قبلت الأمة بلا خلاف رواية المرأة الواحدة عن النبي، ولم يقل أحد أنها امرأة! وكما نعلم بأن مسائل الدين أهم من مسائل القضاء، فكيف نقبل شهادتها عن النبي في ديننا ونرفضها في دنيانا!
وتتقدم شهادةُ المرأة شهادةَ الرجل في مواضع كثيرة، فشهادتها أهم في قضايا الولادة، وهذه قضية حساسة جدًا؛ لأنها تتعلق بالنسب، من جهة، والوراثة من جهة أخرى، ولو ادعى رجل على زوجته أمام القضاء أن فيها عيبًا جسديًا، فالحكم هنا للنساء الثقات، لا للرجال، وكذلك في قضايا فسخ العقد إنْ تعارضت شهادة الرجل مع شهادة المرأة، فإن شهادتها مقدمة على شهادته. وكذلك شهادتها في الرضاعة والحيض والعدة مقدمة على الرجل؛ واتفق أهل العلم على أن شهادة المرأة في القضايا النسائية، كالرتق والقرن والثيّابة والبكارة والبرص والعدة أولى من شهادة الرجل.
ختامًا
إننا من خلال الثقافة الذكورية المتولدة في عصور الانحطاط والتخلف، وليس من منطلق قرآني أو نبوي، اضطهدنا المرأة، وبررنا اضطهادها إسلاميًا بــ “قانون الطوارئ” المسمى أصوليًا سد الذريعة! حتى بات المجتمع أعرجَ؛ لأنه أبعد نصفه الأنثوي عن المشاركة والفعل بدعوى وجود نصوص منسوبة للإسلام؛ علمًا أن القرآن لم يفرق قطّ بين دور المرأة والرجل في بناء المجتمع؛ وهناك عشرات الآيات التي تؤكد ذلك، كقوله تعالى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ. التوبة:71.
هناك تقاليد تسللت إلى مجتمعاتنا؛ أعطاها فقهاء التقليد بُعدًا شرعيًا، غمطت حقوق المرأة المادية والأدبية، نتيجة التفكير الذكوري الذي سيطر على عقلية كثيرين ممن ادعوا أنهم يمثلون الإسلام.
أما الإسلام، فقد منع كل ما يسئ إلى المرأة، واحترم أنوثتها، ورفض غمط حقوقها. غير أن التقاليد الجاهلية التي كانت تقهر أنوثتها قديمًا (عزَّ عليها أن يطفر الإسلام بالمرأة هذه الطفرة) فسلبتها حقوقها! وتعاملت معها على أنها جارية ومتعة للرجل.
إن الحديث عن استعادة المرأة حقوقها حديث طويل؛ لما لحق بها من حيف كبير، لا يحتمله هذا المقال، ولا يمكن أن يكون هناك إصلاح وتجديد، دون تنوير يبحث موضوع حقوق المرأة، لنصل فيه إلى حل حاسم، ولا يمكن أن تتحرر المرأة، وينهض المجتمع إلا إذا تحرر الرجل من سوء فهمه للإسلام ومقاصده وعقليته الذكورية.