بعد أن قبضتُ جائزتي الماليَّة من مسابقةٍ للقصة القصيرة عام 1981، قَصَدتُ “ساحَةَ المَرجَة” لشراء أقراص “البرازِق” الشاميّة، ثمّ انعطفتُ في طريقي نحو “سوقِ الحميديّة”؛ فرأيتُ حسيبًا في مقهى شعبي، ربما كان اسمُهُ: مقهى الكمال.
كان حسيب كيالي يكتب بقلم الحِبر على ورقٍ أسمر، فجلستُ إلى طاولة مُقابِلَةٍ له؛ حتى لا أقطعَ عليه كتابته، ثمّ جاءني النادل، فطلبتُ كأسَ شاي.
من المُمتِع أن يُشاهِدَ أحدٌ كاتبًا مُنغمِسًا في ما يكتبه، وسطَ ضجيجِ مقهى شعبيّ. يرفع حسيب رأسَه ليُلقِي نظرةً عامةً خاطفةً على الشارع أمامه، بين كلِّ مَقطعَين، أو ترتسم على شفتيه ابتسامته الساخرة، فتخمِّنُ بأنّهُ قد اصطادًا أحدًا ما بِسِهَامِه.
رفع حسيب رأسَه هذه المرَّة باتجاهي، كأنما قد أحسَّ بأنَّ أحدًا يتلصَّص عليه، فابتسم:
– بعتوك الأدالبة لتتجَّسَس عليّ؟!.
ثمَّ دعاني ضاحكًا للجلوس إلى طاولته، وقد أنهى كتابةَ ما قَد بدأه:
– هات لنشوف.. أشو أخبار البلد؟
سألني عن كلِّ شخصٍ يعنيه، وعن مصائرِ شخصياتٍ كان قد كتبَ عنها أو استوحاها في قصصه، ثم سأل:
– كم ولد صار عند أبوك؟
– ثلاثة وبنت واحدة.
– من زوجة واحدة؟!.
– أبي ليسَ زِيرَ نساءٍ أو مِزوَاجًا مثلك.
ضحك حسيب:
– أشو عَم تعمِل هُون بالشام؟
حكيتُ له عن فوز قصَّتي، فسألني إذا كانت معي نسخة منها، قلت: نشروها في الجريدة، قَلّبتُ الصفحات وأشَرتُ إليها، قال: اقرأها.. أريد أن أسمعها منك، ربما كان يُرِيد اختباري، أو ليترصَّدَ أخطائي، فمازحتُهُ:
– سيظنّ الناس بأن المقهى صار فيه حكواتي، أو تحوَّل إلى مسرح، سألني:
– سمعتُ بأنك كتبتَ مسرحيةً وأنتَ في الصفّ الحادي عشر، ولكن هل اشتغلتَ في المسرح؟، قلت: منذ الصَفِّ الخامس في المسرح المدرسيّ، رَفَعَ صوتَهُ ليُسمِعَ رُوَّاد المقهى:
– اعتبر نفسك حكواتيًا الآن، سمعونا يا شباب.
كُلُّ الأمسيات التي شاركتُ بها في المركز الثقافي، وفي مهرجانات الأدباء الشباب، وفي الملتقى الأدبي لجامعة حلب، لا تُعَادِل إلقاءَ قِصَّةٍ في مقهى شعبيٍّ، وبحضور حسيب كيالي.
ثم سألني عن لجنة التحكيم، فَذَكَرتُ اسمين، وعند الثالث: عبد الله أبو هيف، انفجرَ حسيب بالضحك: – عبد الله أبو كيف.. ما غيره؟!
كان حسيب كيالي بارعًا في تحريفِ أسماءِ من ينتقدُهُم ساخرًا، حتى صار اسمُ علي عقلة عرسان عنده: علي عَرصَة عَرصَان، وليد إخلاصي: وليد إفلاسي، فارس الزرزور: نائِف الزرزور، عادل أبو شنب: عادل بلا شنب، والقائمة تطول.
كتبَ حسيب ذاتَ مرَّة في زاويته الساخرة: قلّبتُ الصحفَ اليوميةَ الثلاث صباحَ هذا اليوم، فوجدتُهَا تمدَحُ في يومٍ واحدٍ قصائدَ ممدوح عدوان، كيف لصُحُفِنَا الصامدة ضدَّ الصهيونية والإمبريالية. أن تمدَحَ العُدوَان؟!.
وعلى ذِكرِ العُدوَان -أيضًا- كتب حسيب كيالي بعد حرب 1973 زاويةً ساخرة، تذكَّر فيها، كيف كان يتمشَّى يوميًا من ساحة الأمويين إلى “خَانِق الرَبوَة”.. حِفاظًا على رشاقته، وكان يوميًا يمرُّ بسور نادي الضباط الجديد، فيقرأ جداريّةً نُقِشَت عليها أبياتٌ لصابر فلحوط، الرئيس المُزمِن لاتحاد الصحافيين:
أنا بعثٌ فليَمُت أعداؤُهُ / عربيٌّ عربيٌّ عربيّ.
حتى اخترقت الطائرات الإسرائيلية سماءَ دمشق، وتصدّى لها الخبراء الروس بصواريخ السام 6، فأسقطوا بعضها، ومنعوها من تحقيق أهدافها، سوى صاروخٍ إسرائيليٍّ غَادِر، أُفلِتَ من العبقريَّة السوفياتية، فأطاح بجداريَّة فلحوط وبأبياتِ شعره.
يُتابِعُ حسيب كما أتذكَّرُ الآنَ من زاويته الساخرة.. تلك:
“بعد انتهاء الحرب عُدتُ إلى مُمارسة رياضتي اليوميّة، وحين مررتُ بتلك الجداريّة، فكَّرتُ بأنَّ أعداءنا استهدفوا ذاك الشعر تحديدًا، ولو أنِّي يومَهَا مررَتُ بجانبه، وأتاني الصاروخ الصهيونيّ الغادِر، لكنتُ الآنَ شهيدَ الشعراءِ الفلاحيط الفحاليط”.
قال لي حسيب في جلسة المقهى تلك:
– تعرِف بأنّي ذهبتُ إلى باريس لإتمام دراستي في القانون الدولي، كما كان يرغب بذلك والدي، “مُفتِي إدلب آنذاك”، لكنّي لم أترك مسرحيةً في باريس لم أحضرها، ولا فرقةً مسرحيةً لم أتعرَّف إليها، حتى صارت الدراسةُ شيئًا في آخرِ اهتماماتي، فلمّا عُدتُ.. حاولتُ أن أُحيِي المسرحَ الشعبيَّ الساخر الذي بدأه حكمت مُحسِن، لكنّ النخبةَ آنذاك لم تكُن في صَفِّي، ولم تدعمنا وزارةُ الثقافة، لم نسترجع ما أنفقناه على إنتاج مسرحية: مشحَّر يا جُوز التِنتِين، حتى جاءتني دَعوةٌ لحضورِ أولِ دورةٍ لمهرجان دمشق المسرحيّ، فقلت لنفسي: روح يا ولد وتفرّج.
تابع حسيب:
– هناك رأيتُ جان ألِكسَان يتصدَّر ندواتِ المهرجان، يُقَاقِي بالمُصطلحات المسرحية، يُقاطِعُ هذا، يَبتُرُ مُداخلةَ ذاك، فلمَّا رفعتُ يدي لأناقشَ.. لم يَرَنِي، رفعتُها ثانيةً.. فرآنِي وتجاهلني، رفعتُها ثالثةً فتجاهلني عن سابقِ ترصُّدٍ وإصرار، تركتُ الندوةَ إلى أقربِ مقهى، وكتبتُ رسالةً إلى وزيرة الثقافة نجاح العطار، نشرتُها في زاويةٍ ساخرة:
– أشكرُ دعوتَكِ لحضورِ المهرجان، وأشكرُكِ أيضًا؛ لأنِّي طَوَّرتُ خلالَهُ ثقافتي المسرحيّة، حين تعرَّفتُ في ندواتِهِ إلى المُصطلحات المسرحيَّة التالية: التغريب، كسر الجدار الرابع، مسرح الشارع… إلخ، وإلى الأسماء الآتية: بريخت، ستانسلافسكي، مايرخولد، جان ألِكسَان.
أما الأسماءُ الأولى فمُفرَدَةٌ، ويتميَّزُ جان ألِكسَان عنها جميعُها، بأنَّ اسمَهُ الأول مُفرَدٌ، أما الثاني: فمُثنَّى، وقد سُعِدتُ بتكرارِ لَفظِهِ على لساني عِدَّة مَرَّاتٍ حتى الآن!
بعد وفاة حسيب كيالي بعقدينِ من الزمان.. ابتُلِيتُ -أنا شخصيًا- بكائنٍ غيرِ مَسرحيٍّ، كتبَ تقريرًا ضِدَّ أستاذِه، الدكتور نبيل الحَفَّار، لُيزيَحَهُ عن رئاسةِ تحريرِ مجلَّةِ “الحياة المسرحية”!
فاشتققتُ له مُصطلحَ: نَاقُود، على وزن: جَارُوخ – فَاشُوش – رَابُوب – شَاكُوش – دَاسُوس… إلخ، وكان اسمُهُ في غَابِرِ العَهدِ والزمان: دون جوَان جَان!.
تعليق واحد