أزداد جنونًا حين أمرّ قرب قبر وليّ
أرمي له الحجارة لكل أمنياتي غير المستجابة
لا يستجيب الأولياء لأمنيات نساء البشتون الأفغانيات، تمضي النساء المنسيّات بين الجبال الشاهقة، والتضاريس الوعرة إلى الحب والرغاب من خلال الغناء، يتناقلن بسريّة تامة الأبيات الشعريّة مشافهة، دون تدوين أو حفظ.
قندهار التي أوجعها الموت، لم تنج نساؤها إلا بالشعر، تؤلف نساء البشتون هذه الأشعار وهنّ غاديات إلى الحصاد، يجمعن الحطب، يحملن جرار الماء، يؤلّفن الشعر بأجساد تتصب عرقًا تحت سماء أفغانستان وشمسها اللاهبة.
اللانداي: وهو الموجز.
يكشف كتاب “اللانداي”، أو الشعر الشعبي للنساء البشتون، وهو ما جمعه الكاتب الأفغاني سيد بهاء الدين مجروح الذي صارت ذكراه نثارًا، بعد اغتياله في بيشاور سنة 1988. يكشف هذا الكتاب الذي ترجم إلى الفرنسية، ثم نقله إلى العربية جميل صلاح، الجانب المـضيء والخلاق لروح أفغانستان، بعيدًا عن صوتها المهزوم من الجراح، ينبش أرض كابل الوعرة، ليخلّي سبيل الشهوات التي طمرتها نساء البشتون.
تقول الحكاية: نساء البشتون لا ينتحرن بالرصاص، ولا بالمشانق، فالحبال والسلاح من أدوات الرجال، وأجسادهن العطشى لا تجد راحتها إلا في قاع الأنهار، قفزة واحدة إلى الهاوية، ويُغرق الماء كل الأحزان.
يا إلهي ماذا تفعل بي؟
الأخرون زهور تفتحت، وأنا تركتني برعمًا
قندهار حيث تلد النساء نساءً أخريات، وتلد الجبال الشاهقة الحب والشهوات. في الطريق إلى الماء، تضع النساء حملهن بعد مخاض مرّ، يضعن أشعارًا، يهمسن بها همسًا، حيث حياتهن السريّة المغلولة، ومخادعهن المتدفقة لهفة لا يدخلها أحد، يُعلنُ -عندئذ- الشعر نفسه حرًا مرتجلًا، بعيدًا عن التراكيب المثقلة، أو اللغة الجافة، ومن هذه الكوّة الضيقة التي تتسع بالكاد لمرور أجسادهن، ينطلقن إلى البراري بلا وزن أو قافية في كثير من الأحيان.
يغيب الوزن كثيرًا، لكن ما يظهر جليًا هو الجرس الداخلي الراقص، التناغم الصوتي الشفيف الذي يمنح هذه المقاطع لحنًا خاصًا.
أحبّه! أحبّه! لا أخفي ذلك ولا أنكره
حتى لو قطعوا كل شاماتي بالسكين
خذني بين يديك أولًا ثم ضمني
بعدها أدر وجهي وقبّل شاماتي واحدة تلو الأخرى
لا تقول نساء البشتون شعرًا صوفيًا، ففي مجتمع ذكوري قاس، يحتكر فيه الرجال كل السلطات، وينوء كاهل المرأة بكل الأعباء، يصير المتنفس الوحيد هو الغناء، لا تركن النساء إلى فلسفة، أو علوم؛ بل ما تمنحه الجبال والفطرة الأولى.
القصيدة القصيرة جدًا، تقع في بيتين. يأتي الأول وفق تسعة مقاطع لفظية، بينما يأتي الثاني وفق ثلاثة عشر مقطعًا، تتخلق من الينابيع وحمل الجرار، المقاطع الملاصقة للحياة. ويتميّز شعر نساء البشتون بعاطفته الصادقة، وهو شعر حسيّ خالص.
في مدينة مثل كابل تُسدل أمتارٌ من القماش فوق أجساد النساء، تظل المرأة حبيسة الجسد في تغريبة حقيقية، لذلك؛ لا تجد بدًا من تعريته وإن بالشعر والغناء، تطلقه من سجنه ليرقص حرًا خفيفًا. بعيدًا عن الحيّز المسموح لها بالتحرك من خلاله، ألا وهو الرجل.
خفيّة أكتوي، خفيّة أبكي
أنا امرأة الباشتون التي لا تقدر على الإفصاح عن حبّها
أملك أساور لا ألبسها
منذ أن التحقت بحبيبي، ذراعي عاريّة دون حليّ
تطورت الموضوعات في الأغاني الجديدة، لكن ما يلاحظ كيف غطت جناح الحرب صوت الشعر، وصار اليأس ملاصقًا للأنغام. فالمنفى، القتال، البشع الدميّم، الحبّ… هو ما بقي واضحًا وجليًّا لدى هؤلاء النسوة.
حلَّ الربيع، الأوراق تنبت على الغصون
لكن في بلادي، فقدت الأشجار أغصانها تحت وابل رصاص الأعداء
إذا لم تحمل جرحك في صدرك
لن أبالي حتى إذا ثُقب ظهرك مثل مصفاة
افتح ثغرًا في الحائط، قبّلني على الشفة
البشع الدميم، هو من بناه، وسيتمكن من ترميمه
إذا لم تعرف كيف تحبّ
لماذا أيقظت قلبي النائم؟
وهكذا تمثل المرأة البشتونية، صورة للمرأة النقية، الشفيفة، الساذجة، الماكرة. هنا تكمن ذروة المرأة المنفية، أمنيتها الوحيدة هي الرجوع إلى الجبال، إلى القرى، لجلب الماء، ومزيد من الأغاني.
وأخيرًا تقول امرأة بشتونية:
إذا مات حبيبي، سأكون كفنه
هكذا يتزاوج الرماد
تعليق واحد