مسألة الأقليات والأكثرية المرتبطة بتقسيم السكان على أساس “مِلل وطوائف وقوميات” تُعدّ جزءًا أساسيًا من مشكلة انعدام التعايش في أكثر الدول تنوعًا، وتتخذ أبعادًا أخرى في حالات الحروب فتصبح وسيلة وتبريرًا للقتل والتدمير، وفي سورية حيث أكثر البلدان تنوعًا، ومع اتساع دائرة الاقتتال، أدّى تداخل الاثني بالديني والمذهبي إلى دمار آخر، وعُدّ بداية للسير نحو الانقسام والتجزئة بين المواطنين قبل رسم الخرائط على الأرض، وأسهم في تحويل سورية إلى ميدان حرب متعدد الجبهات، يتداخل فيها الداخلي مع الإقليمي والدولي.
أسهمت الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي مرّت بها دول المنطقة في التأسيس لمشكلات كبيرة ومتعددة، تصبّ في تعزيز الاختلاف المجتمعي، وترسيخ العزلة المجتمعية، فما تبنّته السلطنة العثمانية من نظام طوائف ومِلل، حوّل المجتمع إلى مجموعات مشرذمة، لكلّ منها مرجعيّته الدينية، بوصفها مرجعيّة سياسية أيضًا، كذلك أدّى التدخّل المتواصل للقوى الاستعمارية، بدعوى الرعاية والحماية، إلى ترسيخ أولوية الانتماء الديني والمذهبي، لتتفاقم هذه المشكلة نتيجة فشل الحكومات المستحدثة في بناء دول مدنية، تُبنى على قاعدة المؤسّسات والقانون، ومن ثَمّ؛ أسهمت في تشظّي المجتمع، وبروز الانتماءات والعصبيات الطائفية والمذهبية والقومية والاثنية التي تحول دون تحرّر المواطن الفرد، وظهوره قيمةً عليا وشخصيةً قانونية وسياسية وصاحب عقد اجتماعي مع الدولة. وأدّى تلاعب الأنظمة المستبدّة بهذه المكونات الاجتماعية، ووضع بعضها في مواجهة بعض؛ تحسّبًا من اصطفافها في مواجهة فسادها واستبدادها، إلى ظهور حالات القطيعة وبناء الجدران بدل مدّ الجسور وفتح مجالات التعارف والتعايش، ويضاف إلى ذلك؛ ظهور أيديولوجيا القومية العربية التي أسهمت إسهامًا كبيرًا في عزلة الأقليات الاثنية المختلفة، وعدّ المطالبة بحقوق الأقليات تمهيدًا لطريق الانفصال، أو إضعافًا للوحدة الوطنية، وأدّت إلى غضّ النظر عن جميع الانتهاكات التي تمارسها السلطات الديكتاتورية على شعوبها، أيًا كان تمثيلها للأكثرية أو الأقلية.
المسيرة التاريخية التي عاشتها سورية في تكريس الإقصاء المتعمد، وتمتين العزلة المجتمعية أدّت -حاليًا- إلى تعملق الشرخ بين “الأقليات والأكثرية”، وباتت تشكّل واجهة لأحداث اليوم في التوجّه نحو أسلمة الصراع، وانتشار التنظيمات التكفيرية المسلحة التي تمثل “أقلية” ضمن الأكثرية، وفي استغلال النظام مصطلح “حماية الأقليات” استغلالًا كبيرًا مكررًا، ومن ثمّ صناعة اصطفافات شعبية متصادمة على أساس اختلافها الديني والاثني، وتمكن ترجمته بأكثرية عاجزة عن استيعاب الأقليات واحترام حقوقها، وأقليات غير قادرة على تجاوز قلقها وخصوصيتها، لتبدو سورية غارقة في حرب بين مكوناتها المجتمعية، لا حلول لها إلا بالتوجه نحو التقسيم أو بناء فيدراليات تؤسّس للتقسيم؛ نتيجة انحشار الطرفين داخل حلقة مفرغة تسهم الأكثرية في انغلاق وتعصب الأقليات الدينية المذهبية والاثنية، وتسهم الأقليات في تمسك الأكثرية الدينية باستبدادها وفرض أحكامها، وتطبيق شريعتها لدرء الفتنة الطائفية أو المذهبية، ومن ثمّ؛ ستعمل الأقليات والأكثرية على خلق حالات عنف سياسي ديني متكرر ودمار مقبل.
أزمة الأقليات والأكثرية التي كرّستها السلطة الحاكمة، وتعسّفها الأمني، واستيلائها على مقدرات الدولة، والتعامل مع من لا يواليها، بوصفه مشكلة حقيقية وواقعية تقتضي القمع، واعتمادها الإقصاء المتعمد لمجمل طيف الشعب الذي يمثل الأكثرية الفعلية المتنوعة والصامتة قسرًا، لا يمكن حلّها باللجوء إلى دساتير تكرّس حالة التفتت والتشظّي المجتمعي، وتعني استمرار الفشل في بناء دولة حضارية. وتجدر الإشارة إلى أن الدساتير السورية المتتالية منذ الاستقلال السوري كانت تشير صراحة، أو تحمل دلالات ضمنية على تعدد المكونات، فقد سمح دستور عام 1930 والدساتير التي تلته للطوائف الدينيّة بممارسة شعائرها، وللاثنيات بالتعليم بلغاتها الأصليّة، إلا أنه بعد تعاظم دور الفكر القوميّ العربيّ الذي تُوّج بالوحدة بين سورية ومصر، تم استثناء ميزة التعليم باللغة الأصليّة، وبهذا كان الاستثناء يشمل القوميّات، ولا يشمل الطوائف الدينيّة التي بقيت محافظة على ممارسة شعائرها، وأُسِّست لها محاكمها الشرعية الخاصة بها “كالمحكمة المذهبية للدروز”. تلت ذلك الدساتير التي أسبغت هويّات دينية وقومية على الدولة، فشكّلت إنكارًا صريحًا لحقوق معظم المكوّنات القوميّة والدينيّة في سورية، فأن تكون سورية عربية فهذا ينزع صفة المواطنة عن باقي القوميّات، الكرد والسريان والأرمن وغيرهم، وأن تكون رئاسة الجمهورية حكرًا على المسلمين، فهذا يعني أنّ المسيحيين وأتباع الديانات الأخرى مواطنون من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال.
أمام الوضع الحالي من التشرذم لم يعد ممكنا اللجوء إلى دساتير لا تعترف بحقوق جميع المواطنين على قاعدة المواطنة، فالدستور تعبير عن عقد اجتماعي يوقَّع بين أطراف واضحة، وتشارك فيه جميع المكونات، ويكون معبّرًا عن رغبتها الحرّة في خلق هوامش التفاعل والتقارب بين الأكثرية والأقليات، وفتح الطريق لتحقيق الاندماج الوطني، وهذا يضع الشعب السوري المتنوّع أمام امتحان حقيقي في اختيار طرق الحلّ، فإما الاستمرار في دوائر العنف المطلق والتشظّي والفرز الطائفي والمذهبي والاثني الذي يحوّل الاختلاف إلى خلاف مجتمعي قاتل، وإما صوغ القوانين اللازمة لاحترام حقوق الجميع، ومن ثمّ؛ حماية وجود الأقليات، وعدم التمييز، وحماية هوياتهم ومشاركاتهم في الحياة العامة، وعلى جميع الصعد، بوصفهم جزءًا من مكونات المجتمع، تنطبق عليهم جميع الحقوق والواجبات القانونية، فهو السبيل لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.