يعتقد العرب والمسلمون أنهم ضحايا أكبر مؤامرة كونية، تعرّض لها البشر عبر التاريخ، تتمحور هذه النظريات حول عدة جهات، بحسب الطلب؛ الصهيونية، الإمبريالية، اليهود، الصليبيون، الغرب، إضافة إلى أنواع جديدة، مثل المؤامرة الفارسية، الشيعية، الوهابية، العثمانية؛ ويمكن، بحسب الحالة السياسية والعقائدية لكل جماعة، انتقاء ما يناسبها؛ لتكون الضحية الأكثر مظلومية. لكن العرب والمسلمين ليسوا وحدهم من يهوى نظرية المؤامرة، فهي منتشرة بين معظم شعوب الأرض بدرجات متفاوتة، والآن نظرية المؤامرة تجد توسعًا هائلًا في الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، لكنهم يرونها مؤامرة آتية من الإسلام والمسلمين ضد حضارتهم الغربية، أو من الصين وروسيا، وبعضها يغرق في الغرابة حول مؤامرة كائنات فضائية.
بداية، لنُعرّف نظرية المؤامرة: هي تفسير لحدث، أو حالة ما، على أنه مؤامرة خفية لحكومات أو جهات قوية جدًا، تهدف إلى أذية جماعة ما، باستخدام وسائل غير قانونية وشريرة؛ وهذا التفسير غالبًا ما يناقض حقائق أساسية، ويستخدم قراءة انتقائية للتاريخ والحاضر؛ لدعم نظريته، بما قد يبدو -شكليًا- دليلًا موضوعيًا ومنطقيًا؛ إضافة إلى أن نظرية المؤامرة تعتقد بأن العالم محكوم وفق نمط أو منظومة محددة، ومن جماعة شريرة غير واضحة، وتفترض نظرية المؤامرة ثلاث بديهيات أساسية بحسب رؤيتها: لا شيء يحدث بالصدفة، كل الأشياء ليست في حقيقتها كما تبدو، وكل شيء مترابط ببعضه؛ الناحية المهمة أن نظرية المؤامرة تفسر كل الأحداث بطريقة تدعم تفسيرها، حتى لو كانت ضد المنطق والحقيقة، لذلك؛ هي نظام مغلق يعتمد على الإيمان أكثر منه على الدليل العلمي. طبعًا هذا التعريف يختلف عن مفهوم التآمر الملازم للصراع الأزلي بين البشر على السلطة والمال، فالتآمر سواء بين الأفراد أو الشركات أو الحكومات خاضع لنسبية الزمان والمكان وتغيرات الحالة، ولا يحتوي قوى خارقة القدرة، تستطيع التحكم بكل شيء في مدى عقود أو قرون.
تمتد نظرية المؤامرة في الغرب إلى قرون طويلة سابقة، وبعد الحرب العالمية الثانية تمحورت بمصوغات حول الخطر السوفياتي والخطر الأصفر (الصيني)، لكن انتشارها تفسير خارج نطاق الحقائق الموضوعية بقي محدودًا. منذ عقد التسعينات، وخاصة بعد جريمة تفجيرات 11/ 9، توسعت نظرية مؤامرة في الغرب؛ لتزعم أن العالم الإسلامي يحيك مؤامرات ضخمة ضد الغرب، سعيًا لتدمير الحضارة الغربية والمسيحية واليهودية. ربما تكون الكاتبة البريطانية، اليهودية، مصرية الأصل، بات يور، أول من أطلق العنان لنظرية المؤامرة الإسلامية في الغرب، وهي التي حقق ثلاث من كتبها أفضل المبيعات بين الكتب التي تبحث في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، ففي كتابها “أورابيا Eurabia” تتكلم حول نظرية تقول: إن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والبلاد العربية منذ السبعينيات، والتأثير الإسلامي في سياقها، وبالتعاون ما بين الراديكالية العربية والإسلامية، وبين الفاشية والاشتراكية والنازية الأوروبية، أدى إلى بعث ثقافة وسياسة معادية لأميركا والسامية، وهذا المخطط يعود إلى مؤتمر الحوار العربي الأوروبي في باريس عام 1974؛ في الواقع لقد أدخلت بات يور مصطلح Dhimmi المقابل لكلمة “ذمي” في العربية منذ الثمانينيات في كتابها “الذمي: اليهود والمسيحيون تحت الإسلام”، وفي العام 2001، تلاقت مع كتابات هنتغتون في كتابها “الإسلام والذمية: حيث تتصادم الحضارات”.
لقد استخدم عدد من مشاهير المنظرين لنظرية المؤامرة الإسلامية كتابات بات يور، ومنهم روبرت سبنسر، مؤسس موقعي “مراقبة الجهاد Jihad Watch”، و”مراقبة الذمي Dhimmi Watch”، كذلك البروفسور دانييل بايب، وباميلا غيلير.
كمية التنظير حول نظرية المؤامرة الإسلامية في الغرب تصاعدت تصاعدًا كبيرًا بعد جريمة تفجير الأبراج، وتقابلت مع سوق إعلامي مفتوح، يسعى لاجتذاب المتابعين بأي طريقة، وتحالفت مع تيارات سياسية غربية، كانت تاريخيا مغمورة أو مختبئة تحت غطاء التيار السياسي المحافظ في الغرب. إن تصاعد حركة “الإرهاب الإسلامي” في العقدين الأخيرين قدم أداة فاعلة ضمن حلبات الصراع السياسي داخل البلدان الغربية، وعلى المستوى الدولي لنشر خرافات نظرية المؤامرة، فهذه الحركات المعتمدة فكريًا على نظريات الإسلام السياسي، وماليًا على كثير من مخابرات العالم، شكّلت أفضل الأدوات التي يمكن التحكم بها، وتسييرها بحسب مصالح الأطراف المتصارعة.
لا بد من ملاحظة أن الأساس النظري المقدم في كتابات بات يور، حول تحالف الراديكالية الإسلامية مع الفاشية والنازية الغربية، سقط خلال السنين الماضية مع الصعود الصاروخي نسبيًا لليمين الغربي المتطرف الحامل للواء نظرية المؤامرة الإسلامية، سواء في أوروبا الغربية أم الولايات المتحدة الأميركية.
لا تتوفر استطلاعات رأي واضحة حول انتشار هذه النظريات في الغرب، لكن انتصار ترامب، وصعود اليمين الغربي المتطرف، يشير إلى انتشار الخوف من الإسلام أو “الإرهاب الإسلامي”. خاصة وأن “التطرف الإسلامي” قدم ما يكفي لدعم حجة النازية الغربية الجديدة.
انتشار نظريات المؤامرة الإسلامية في الغرب، ليس ناتجًا أساسًا عن الأحداث المتعلقة بـ “الإرهاب الإسلامي”، بل هي ناتجة أساسًا عن فقدان الثقة بين الشارع الغربي والطبقة السياسية التقليدية، وأتت أحداث أيلول في نيويورك، ثم حرب العراق؛ لتزيد من الشك، ثم كانت الضربة القوية للعلاقة بين الطبقة السياسية والشارع الغربي في عام 2008 مع الأزمة المالية العالمية.
إضافة إلى أن نتائج الربيع العربي المأسوية في ليبيا واليمن وسورية، بعد أن قفز الإسلام السياسي والجهادي على الثورات العربية، بدعم إقليمي وغربي، أدت إلى دفع موضوع “الإرهاب الإسلامي” إلى السطح بقوة؛ وهنا لم يفوّت اليمين الغربي المتطرف الفرصة، خاصة مع تدفق اللاجئين المسلمين في السنوات الأخيرة إلى الغرب، وانطلقت آلته الإعلامية الشعبوية تهوّل من مخاطر اللجوء الإسلامي في الغرب؛ وما زاد الطين بلة، أن معظم اللاجئين المسلمين والعرب أتوا وهم يحملون نظرية المؤامرة الغربية في عقولهم، ما زاد من سخونة الجمر تحت الرماد.
من ناحية ثانية، فمن المؤكد أن أغلبية النخبة الغربية والإعلام الغربي تواجه هذه النظريات وتدحض حججها، وأن القيم الأخلاقية التي جرى ترسيخها بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب، حول حقوق الإنسان والمساواة الإنسانية، ما زالت قوية في الشارع الغربي. لكن المشكلة في كون الطبقة السياسية الغربية التقليدية، أي اليسار والوسط، لم تطور أدواتها وسياستها؛ لمواجهة التيار اليميني المتطرف، وما زالت تسير في أنماط قديمة مستمرة منذ القرن الماضي.
السؤال: ماذا يمكن للعرب والمسلمين فعله أمام هذا النوع من الخرافات الشعبوية؟ في الواقع لا يمكن لمن يحمل نظرية المؤامرة الغربية أو الصليبية أو الإمبريالية في ذهنه أن يواجه نظرية المؤامرة الإسلامية في الغرب، ففاقد المنهج العلمي العقلاني في فهم العالم وحركة التاريخ، لا يمكنه دحض ظله في المرآة، بل على العكس تمامًا، مواجهة نظرية “المؤامرة الإسلامية” من المتبنين لنظرية المؤامرة الغربية سيزيد من قوة وانتشار وخطورة نظرية المؤامرة على الطرفين.
تعليق واحد