تتعامل المفاوضات -عمومًا- مع قضايا خاصة مرتبطة -بشكلٍ أو بآخر- بقضايا عامة. أي: إنها تتعامل مع مفردات مرتبطة بكليات. وللتفريق بين معنى “الكليات” و”المفردات” نلجأ إلى الأمثلة الآتية: (“دين”، “ماء”، “كوكب”) إنها مفهومات عامة أو كليات؛ و(“الإسلام”، “البحر المتوسط”، “كوكب الأرض”) مفهومات فردية أو مفردات. فما يطبع المفردات هو أسماء خاصة، أو نقول “طابع الخصوصية في نوعية قضاياها”، بينما يمكن طرح الكليات من دون الاستعانة بالتخصيص، وتكون قضاياها ذات “طابع عام”. ومثلما يبدو واضحًا؛ فإن هذا الطرح يتضمن قدرًا ليس بقليلٍ من النسبية، فالكليات تتحول إلى مفرداتٍ أمام مفهومٍ يطرح قضية أكثر عمومية أو “أكثر كلية” -إن صح التعبير- أو وجودية على وجهٍ أدق. الأهم في هذا التمييز النظري/المنهجي، استخلاص توصيفٍ ملائم لـ “فن التفاوض”، إذ يمكن أن ننظر إليه – استنادًا إلى ما سبق- على أنه الفن الذي يضمن لحامله الأهلية، والتأهيل، والقدرة، للانتقال بمرونة ورشاقة من الكليات إلى المفردات التي تشكل موضوع التفاوض. لذلك؛ يجب على المفاوض الناجح أن يطوّر منهجية تفكير ومقاربة، تجعله قادرًا على التمييز بين الكليات والمفردات، خطوةً أولية وأساسية في بناء استراتيجيته وآلياته التفاوضية.
يمكن أن نقول: إن المفاوضات مفردة، والثورة كُلية. أو الأصح أن نقول: إن المفاوضات التي يخوضها السوريون مع النظام السوري في سياق الثورة هي “مفهوم مفردات”: أي: إنها صف من المفردات يحتوي عناصر كثيرة. والإشكالية التي يمكن أن نطرحها في هذا السياق تتعلق بتنافي هذا المسار المنهجي في بناء التفاوض مع المسار التجريبي، أو الاستقرائي المتبع في الغالب. أي: إن الإشكالية تكمن في الحقيقتين المنطقيتين التاليتين: (الأولى تهم السياسي أكثر، والثانية تهم المفكر والسياسي، على حدٍ سواء).
الحقيقة الأولى: لا يمكن تمييز المُفرد بخصائص وعلاقات تطبعه ظاهريًا، ولكنها خصائص وعلاقات للكلي. فخصائص الثورة السورية كلية، يمكن أن يستند إليها الفكر، ولكنها لا تجدي في السياسة القائمة على التفاوض. بل تصبح مطبًا منهجيًا يُسهّل على الخصم عملية الانقضاض والهجوم. وبتقديرنا، تقع أغلب ثغرات وفود المعارضة السورية إلى جنيف (من 1 حتى 4) في هذه البوتقة. إن بناء التفاوض الناجح (بوصفه مفردة تنتمي إلى كلية الثورة)، يتطلب انفصالًا يقظًا عن كليات الثورة، يقوم به المفاوض؛ بهدف بناء مفردات تفاوضية ناجعة، تلائم الزمان والمكان والهدف الاستراتيجي. ويعود بنا هذا إلى ثلاثية (الأهلية، والتأهيل، والقدرة) التي يضمن فن التفاوض وجودها الضروري. تُنجز هذه الثلاثية الخطوة الأولية والقاعدية في مسار السياسة الثورية، وهذه الخطوة تقوم على ضمان الانسياب المرن؛ انطلاقًا من الثورة وأهدافها الكبرى التي تحمل أبعاد قيمة، إلى مفردات وآليات وقعنتها السياسية، وبناء مسارها التفاوضي، وأهدافه المرحلية التي تحمل أبعادًا نفعية وعملية.
الحقيقة الثانية: لا يمكن تعريف الكليات؛ انطلاقًا من المفردات، والاعتقاد السائد بنجاعة القفز من المفرد إلى الكلي عن طريق التجريد، اعتقادٌ واهم ليس أكثر. إذ ترتبط وجهة النظر هذه بمنطق الاستقراء، وبالقفز من القضايا الخاصة إلى القضايا العامة فيه. والحقيقة هي عدم إمكانية إنجاز هذا الإجراء المنطقي من دون أن نصنع أوهامًا تؤدي إلى إخفاقات استراتيجية. أي بمعنى آخر وأقرب إلى التجسيد: لا يمكن تعريف الثورة انطلاقًا من عمليات التفاوض السياسية التي يقوم بها السوريون مع النظام، كذلك لا يمكن تعريفها انطلاقًا من عمليات الثوار العسكرية. فهذا التعريف بالمجمل يؤدي إلى الوقوع في مطب الاختزال، فيختزل الثورة إلى صراع فحسب، بينما هي منظومة فلسفية سوسيوبوليتية، تتضمن ابعادًا أخلاقية، وسيكولوجية، وفنية، وهوياتية… إلخ. وعليه نعتقد أن أهداف الثورة لا يمكن أن ينجزها مسارٌ تفاوضي، وإن كان ناجحًا وفق المنظور التفاوضي السياسي.
ولكن تكمن -في تقديرنا- أهمية التفاوض، وأهمية امتلاك فن التفاوض -في هذه المرحلة وفي هذا السياق- في بناء نقاط ارتكاز (تستطيع يومًا التأثير بأثرٍ رجعي، بوصفها مفردات داعمة أخرى) لها إحداثيات واضحة في الزمان والمكان، بحيث يكفي استخدام تعبير” هذه النقاط وما شابهها” في المستقبل القريب، للإشارة إلى صفٍ داعمٍ جديد يتصف بالكلية النسبية. وهذه الكلية النسبية هي ما تقنع الأطراف الوسيطة/ المؤثرة بعدالة قضية المفاوض، وبضرورة تنسيق مصالحها معه، لا مع الطرف الآخر. هذه الحركة الانسيابية، ذهابًا وإيابًا بين الكليات والمفردات، لا يمكن أن تتم من دون مزج (ولا نقول خلط) فن السياسة بالفكر وبالمنهجية السليمة والمتماسكة.