تحقيقات وتقارير سياسية

مرحلة جديدة من عمر القضية السورية

يرتكب النظام السوري مقتلة مفتوحة، ومجزرة كاملة الأركان بحق الشعب السوري، يرتكبها على مرأى نظام عالمي متخلخل ومستنكف عن وقف المجازر، فردّات فعل النظام الدولي على الجرائم المرتكبة كانت باهتة، ولم ترق، وإن في الحدود الدنيا، إلى ما وصلت إليه البشرية من تطور في حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.

يبدو أن الأزمة السورية، تقف على مفترق طرق اليوم، فالسوريون فقدوا عواملهم الذاتية والموضوعية للتحكم بهذا الصراع وإدارته. هناك متغيرات وثوابت جديدة في هذه المرحلة الجديدة من مراحل الصراع يمكن الإشارة اليها:

الثابت الأول: التغير في الوضع الدولي على خلفية الساكن الجديد للبيت الأبيض: القضية السورية باتت، ومنذ سنوات، حبيس السياسات الدولية والإقليمية التي تجاذبت حينًا، وتنابذت حينًا آخر، ومن الطبيعي عندما تتغير التوجهات لدى أحد اللاعبين الفاعلين، أن ينعكس هذا على الصراع في كليته أو جزئيته، وتتغير معها قوانين اللعبة.

على مر السنوات الست الماضية تموضعت الإدارة الأميركية السابقة في المكان الصحيح نظريًا، وسارعت إلى إعلان عدم شرعية الأسد؛ بسبب مجازره الوحشية، ولكن البون كان كبيرًا بين النظري والعملي، بين خطابات أوباما المثقف الرصين، وبين التنفيذ العملي لتلك السياسات.

تعاملت الإدارة الأميركية مع الملف السوري بما يحقق مصالحها، وتمحورت سياستها على ألا يتمكن طرف من إنهاء الطرف الآخر، طالما أن هذا الصراع لن يؤثر في أمنها القومي، وطالما أن لها أدواتها لضبط الأمور، وجعلها فوضى منظمة “خلاقة”، وانطلاقًا من ذلك، لم تبال بحلفائها المهددين بالسقوط مباشرة، على الرغم من لسان كيري المعسول. هذه الرخاوة كانت بمنزلة رسائل لأطراف رأت أن الوضع مواتٍ لتحقيق طموحاتها، ففهمت روسيا الرسالة، وضمت القرم الأوكرانية، وتدخلت في سورية عام 2015، وتحركت إيران لتمارس هواياتها التخريبية والتوسعية، عبر أذرعها وميليشياتها في المنطقة.

الثابت الثاني: يمكن التكهن بمدى التغير ومضمونه وتأثيره في الوضع السوري، بعد بداية اتضاح السياسة تجاه روسيا، والجديّة التنفيذية لتقليم أظافرها وتحجيمها، إذ كثُرت التحليلات والتأويلات عن “الترامبية” المتوقعة إزاء روسيا.

يبقى لهاث بوتين وراء ترامب؛ لتدشين بداية عهد جديد للعلاقات بين البلدين، في السراب وليس في المتناول، ما لم يتمخض عن ذلك خطوات عملية خاصة، بعد إقالة مايكل فلين المهندس الترامبي آنذاك لإعادة تحسين العلاقات مع روسيا. خفضت موسكو من سقف توقعاتها، وتعلم أن الخلافات أكبر بكثير من التوافقات، بعد أن أرسلت الإدارة الأميركية عدة رسائل على لسان مسؤوليها وخاصة:

1-المنطقة الآمنة التي يعتزم ترامب إقامتها؛ للتخلص من “كابوس” اللاجئين دون التنسيق مع موسكو.

2-استهداف الحلفاء الأرضيين لموسكو في سورية (“حزب الله”، وميليشيات إيران).

3-تصريح وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أن “لا تعاون مع موسكو طالما تعدّ كل معارضي الأسد إرهابين”.

4-عدّ الرئيس الأميركي روسيا غزت القرم واحتلتها.

مؤشرات تدل -جميعها- على أن العلاقات بين البلدين لن تكون على ما يرام، إضافة إلى أن الأمر المتعلق بإيران لا يبدو أفضل حالًا، فالموقف منها يبدو متشددًا، منهيًا بذلك شهر العسل الأوبامي– الإيراني الذي اختزل إيران بملفها النووي، وتجاهل السياسة التخريبية والميليشاوية، ليعدّها ترامب الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم.

الثابت الثالث: التوجه الرئيس لموسكو وحاجتها إلى نظام الأسد لن يتغير، وجميع الخلافات التي طفت على السطح بين موسكو وايران ونظام الأسد، هي خلافات تكتيكية، غايتها الوصول إلى الهدف الاستراتيجي المنشود، ومن السذاجة أن تتوقع المعارضة بمكان تغيرًا في الحل السياسي الذي تنشده روسيا في سورية، القائم على تعليب النظام و”سلفنته”، وتقديمه للعالم على أنه محارب للإرهاب، أو مجلس عسكري للبلاد في أحسن الأحوال، يضم ضباط الأسد وميلشياته وضباطًا منشقين، ومن البلاهة بمكان عدّ هدف موسكو المباشر في سورية تثبيت نظام الأسد فحسب، فمنذ التدخل العسكري الروسي عام 2015، وفي أثناء الغفوة الأميركية، كرست موسكو دعمها السياسي للأسد بتدخل عسكري روسي بحجم الكلمة والجريمة، ورغبة منها بإمساك الورقة السورية وتوظيفها في أروقة الصفقات مع واشنطن في ملفات عالقة تاريخيًا (الدرع الصاروخية – حلف الناتو-جزيرة القرم).

حتى الآن، لم يؤدِّ التدخل الروسي أهدافه بعد، فموسكو عدّت المرحلة الانتقالية بين الإدارتين الأميركيتين هي المرحلة الأفضل  لتنظيم الورقة السورية سياسيًا، وجعلها جاهزة لأي صفقة محتملة، ولذلك؛ هندست موسكو المرحلة، وشوّشت فيها على المعارضة المشتتة، وخلقت منصات معارضة مُطعّمة بأفكارها عن الحل، واستفادت (وهي بحاجة إلى ذلك) من الحيرة التركية، والنكوص الأوروبي والقصور العربي، وعقدت مع أنقرة وطهران (غير الراضية) اتفاق موسكو، ووقف إطلاق النار، وانطلاق أستانا 1، وسط إهمال أميركي، الانطلاق الذي أنتج بيانًا ختاميًا باهتًا، يدل على عمق الخلافات بين دول هذه المجموعة.

الثابت الرابع: أن هذا الصراع أخذ مداه، واستمراره تهديد للأمن والسلم الدوليين، وعدم حلّه ينبئ بكارثة، على المستويين: الإقليمي والدولي، ويهدد الأمن العالمي الذي يمسه مباشرة، ولا يفصله عنه سوى حدود مائية، تسلل منها آلاف اللاجئين وعشرات الإرهابيين.

لا يبدو بعد هذا السرد أن النظام والإيرانيين في حالة جيدة، لقد وصلوا لحظة لم يصلوها في السنوات الست الماضية، وهم يدركون ذلك؛ لن تختار إيران المواجهة، وستتراجع خطوات إلى الخلف؛ للمحافظة على المكتسبات التي حققتها في عصر زهوها، إضافة إلى أنها لن تُسلم بسهولة، وستختار ميليشياتها للتخريب بحدود. ونظام الأسد لن ينفذ من هذه الثوابت أيضًا، فهي إن لم تصبه إصابة مباشرة في عينه، فستصيبه شظاياها، ولن يكون لموسكو سوى تحريكهم بغية المراوغة في اتجاه تصعيد ما قبل النهاية، وإطلاقها بالون اختبار (معركة الغوطة الشرقية)؛ لتعرف نية الإدارة الأميركية، وتختبر هامش التحرك دون استثارتها، قبل قول كلمتها الفصل.

بقي على المعارضة أن تعي أننا دخلنا مرحلة جديدة، وهي في مؤتمر جنيف 4 المحكوم عليه بالفشل سلفًا، وأن تتمسك بالقرارات الدولية، التي في جعبتها، وأولها بيان جنيف 2012، والقرار 2118 لعام 2013، والقرار 2254 لعام 2015، فالتموضعات المقبلة ستغير الحسابات، وإن المقبل والوقت والتاريخ “لن يكون في مصلحة ثلة المسلخ البشري”.

مازالت سورية منطقة نفوذ سياسي غربي، منذ معاهدة يالطا التي اقتسمت غنائم الحرب العالمية الثانية، ووضعت المنطقة تحت النفوذ الفرنسي- البريطاني، والأرجح أن تقسيم النفوذ -الآن- سيكون بين أوروبا وأميركا التي ما فتئت منذ حرب السويس 1956، تزحف وتقضم النفوذ الأوروبي. والصراع في سورية الآن يبدو أنه آل موضوعيًا إلى مرحلة من هذه الصيرورة؛ لأنها خاصرة إسرائيل التي يحرص الجميع على ضمان أمنها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق