بينما تسير تركيا على قدمٍ وساق؛ لإقناع الولايات المتحدة بإجراء عملية عسكرية مشتركة؛ لانتزاع مدينة الرقة من سطوة تنظيم الدولة الإسلامية، أوردت صحيفة “حرييت” التركية أن الحكومة التركية عرضت على القيادة الأميركية خطتين لعملية الانتزاع، وعلى ما يبدو أن المفاوضات حولهما ما زالت مستمرة، فالطرفان لم يؤكدا توصلهما إلى نتائج ملموسة؛ حتى الآن.
إن المأرب التركي الأساسي من إعداد الخطط، ومحاولة إقناع الولايات المتحدة بها، هو القضاء على نفوذ ميليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية التي تسيطر على مساحات جغرافية واسعة، محاذية للحدود التركية، لقصر مستوى نفوذها في مساحات جغرافية ضيقة، لا تشكل خطرًا استراتيجيًا على مصلحتها، أي: المصلحة التركية.
ـ تفاصيل الخطتين التركيتين المطروحتين
وفقاً لما أشارت إليه صحيفة (حرييت)، فإن الخطتين التركيتين كالآتي: تفكيك ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية” عبر فرز القوة العربية المشاركة فيها، وتعزيز قوتها بعدد من فصائل الجيش الحر الفاعلة، وتوفير دعم جوي دولي لها يسهم في إحرازها تقدمًا عسكريًا ملموسًا ضد تنظيم الدولة الإسلامية خلال فترة زمنية وجيزة. وترمي تركيا -من خلال ذلك- إلى توسيع نطاق سيطرة قوة عربية، تكون متحالفة معها، ومناهضة لسيطرة النظام وإيران والميليشيات الكردية، وترسم تركيا من خلال هذه الخطة التحرك من مدينة الباب التي حررها (درع الفرات) إلى منبج، ومن ثم؛ التقدم جنوبًا باتجاه بلدة الخفسة، ومن ثم؛ مدينة مسكنة وصولًا إلى ريف الطبقة الغربي؛ حيث حدود الرقة. وتبلغ المسافة بين مدينة الباب والرقة ما بين 180 إلى 200 كيلومتر، أو التحرك من جرابلس إلى مدينة الرقة، عبر ريف عين العرب، وتبلغ مسافة ذلك التحرك 150 كيلو مترًا.
الخطة الثانية؛ تقتضي بأن تتقدم قوات المعارضة السورية، المُؤلفة من عدة فصائل تؤسس تركيًا باسم “الجيش الوطني”، مدعومةً بطيران الجيش التركي والتحالف الدولي، عبر مدينة تل أبيض المتاخمة للحدود التركية، بحيث توفر الميليشيات الكردية، بضغطٍ من قوات التحالف الدولية، وبالأخص الولايات المتحدة، ممرًا لقوات المعارضة والقوات التركية للعبور والتمركز في ريف الرقة الشمالي، وتبلغ المسافة بين تل أبيض وريف الرقة الشمالي ما بين 80 إلى 90 كيلو مترًا.
بينما تحاول الأطراف الفاعلة، خاصة روسيا والميليشيات الكردية، تقديم الخطط الدارسة لعملية تحرير الرقة، بأقل التكاليف العسكرية والمالية للقيادة الأميركية الجديدة، تسعى تركيا كسب الموقف الأميركي لصالحها، وهو ما دفعها لطرح خطتين تتسمان بالاعتماد شبه الكلي على قوات المعارضة السورية، وتقتصد على القيادة الأميركية التكاليف الباهظة، وتضمن لها المكاسب الأمنية للاستقرار داخل سورية استقرارًا أكبر، كون المشاركون في العملية، قوات سورية عربية مُرحب بها في المناطق المحررة، على العكس من الميليشيات الكردية المذمومة من السكان المحليين، إذ ارتكبت بحقهم جرائم عنصرية، وفقًا لعددٍ من التقارير الحقوقية الدولية.
ولكن، ما مدى احتمال قبول الإدارة الأميركية الخطتين، وما العراقيل التي قد تعيق تنفيذها على أرض الواقع؟
بالنسبة إلى الخطة الأولى، فإن واقعيتها تبدو ضعيفة جدًا، فالحديث عن سير أرتال عسكرية من الباب إلى منبج، ومن ثم؛ إلى الرقة، بمسافة تبلغ 180 ـ 200 كيلو متر، يعدّ أمرًا صعبًا جدًا، وذلك لعدة عوامل:
ـ السيطرة الكردية على منبج: إذ تسيطر ميليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية على المدينة منذ مدة، ومن الصعب قبولهم بإخلائها من دون مقاومة مباشرة، أو غير مباشرة، حتى لو جرى الضغط عليهم من التحالف الدولي، إضافة إلى أن احتمال رفض القوات العربية المتحالفة مع ميليشيا (قسد) نقطة واردة جدًا.
ـ الطريق الوعرة، وسيطرة تنظيم الدولة على الطريق المؤدية إلى الرقة، وعشرات القرى والبلدات الاستراتيجية المحيطة بها؛ ما يعرّض الرتل العسكري للاستنزاف بالكمائن والألغام.
ـ التكلفة العسكرية والبشرية والمالية الباهظة؛ فانتزاع منبج والقرى المحيطة بها من تنظيم الدولة الإسلامية، ومن ثم؛ قطع مسافة 200 كيلو متر؛ للوصول إلى الرقة، في المنظور العسكري، يعني التكاليف الباهظة والخسائر الجمّة، وهو ما قد يجعلها خطة غير مرغوب بها من الولايات المتحدة، أو التحالف الدولي.
ـ العرقلة الإيرانية أو الروسية؛ إذ يمكن أن تعرقل روسيا، إن لم يُنسَّق معها، أو إيران، التحرك التركي أو الخطة المرسومة، عبر زج قوات النظام، والميليشيات الشيعية المرادفة له، في الطريق التي يُنوى التحرك من خلالها، وهو ما قد يعرقل التحرك المذكور عرقلة كبيرة.
تبدو الخطة الثانية، أقرب إلى الواقعية، فالمسافة أقصر والتكاليف أقل. يبدو أن بمقدور تركيا تحويلها إلى واقع من خلال عدة خطوات، يمكن اتخاذها:
ـ تكثيف المشاورات الدبلوماسية مع عددٍ من الدول المؤثرة في عملية اتخاذ القرار، داخل بنية التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة، وعلى وجه الخصوص ألمانيا التي ترغب في محاربة الإرهاب الضارب للاتحاد الأوروبي في عقر داره، وترمي من خلال ذلك إلى احتواء أزمة اللاجئين التي قد تطفو على السطح في أي وقت تفتح به تركيا الحدود أمام اللاجئين، وبريطانيا التي تهدف إلى إعادة بسط نفوذها السياسي والاقتصادي المستقل في المنطقة، عبر التقارب مع الدول القوية إقليميًا، وخاصة تركيا، وفي ما ترغب تركيا من خلال التقارب مع بريطانيا، الإبقاء على عنصر قوي موازن للقوة الروسية والأميركية، بعد أن فشل تنسيقها معهما، ترمي بريطانيا إلى التقارب مع تركيا لتنسيق موقفها معها؛ كونها أحد العناصر الفاعلة سياسيًا وعسكريًا في سورية، للتمكن من حل الأزمة السورية بما يكفل مصالح دول الخليج التي تسعى بريطانيا للتقرب إليهم.
ربما يعود التقارب التركي- البريطاني على هذه الخطة بالدعم الجيد، وقد تزامنت زيارة رئيس الأركان البريطاني، ستيورات بيتش، إلى أنقرة، مع المشاورات التركية- الأميركية الجارية حول المعركة؛ ما يشير إلى وجود تنسيق تركي – بريطاني نشط حول العملية؛ أيضًا وفي وقت سابق ليس بالبعيد، حلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ضيفةً على أنقرة، ما يمكن ترجمته على أنه مسعًى بريطاني ألماني لمناقشة الخطط التركية، ودعمها؛ بهدف دفع عجلة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والقضاء عليه.
-رفع مستوى التعاون مع دول الخليج
تتقاطع المصلحة التركية- الخليجية في تبديد تنظيم الدولة الإسلامية الذي بات يشكل خطرًا على دول المنطقة، ومن المصلحة الخليجية -أيضًا- إيقاف التمدد الكردي الذي يملك علاقة جيدة مع روسيا وإيران، فإيقافه يعني كبح بعضٍ من النفوذ الإيراني، ومنع إيران من فرض سيطرتها على الحدود العراقية- السورية التي ترغب في استخدامها لمدّ خطها الناقل للغاز الطبيعي.
يوفر الدعم الخليجي كثيرًا من التكاليف المالية على الجانب الأميركي، ويكفل بناء المناطق الآمنة بناءً أسرع، وهو ما قد يحفز واشنطن للتحرك مع القيادة التركية، وفقًا لخططها.
-الإطار الواقعي للإدارة الأميركية الجديدة
إيمان الإدارة الأميركية الجديدة بأن تقاعس إدارة أوباما في محاربة جذور الإرهاب قبل ظهوره على السطح، هو السبب الرئيس وراء انتشار الإرهاب، وإيمانها بأن التحالف الإقليمي مع الدول القوية إقليميًا، يضمن لها المكاسب السياسية والأمنية ضمانًا أكبر، ويوفر عليها كثيرًا من التكاليف البشرية والمادية، ويخدم مصالحها خدمة أكبر، إضافة إلى نظرتها المحاربة للتمدد الإيراني الذي تعدّه خطرًا جسيمًا على الاستقرار الإقليمي الذي يتعرض للتقوّيض، نتيجة هذا التمدد، ما يعود على المصالح الأميركية في المنطقة بالنتيجة السلبية، تمثل عوامل عدة تجعل الإدارة الجديدة تتسم بالواقعية التي قد تخدم المصالح التركية- الخليجية.
وعلى صعيد العوائق التي تقف أمام تنفيذ الخطة الثانية، على الرغم من مخاطبتها الواقع، يمكن تصوّر الآتي:
ـ إخفاق تركيا في إقناع روسيا بتحركاتها العسكرية
من الصعب الحديث عن إمكانية تحرك تركيا عسكريًا دون إجراء تنسيق دبلوماسي سياسي رفيع مع روسيا، وعلى الأرجح، كان الاستهداف الروسي للجنود الأتراك في الباب “بالخطأ” عبارة عن رسالة تعبر عن الرفض الروسي لاتجاه تركيا نحو القطب الأميركي، وقد تدعم روسيا قوات النظام السوري، أو الميليشيات الكردية، التي قد تجد في ذلك الدعم فرصةً جيدةً للإبقاء على مكتسباتها.
ـ تحرك ميليشيا “الحشد الشعبي” العراقية، لدعم الميليشيات الكردية؛ وهو أمرٌ غير مستبعد على إيران التي قد ترى أنه لا خيار آخر أمامها لإعاقة التعاون الأميركي- التركي، سوى حشد قواتها وتحريكها نحو دعم ميليشيا “وحدات حماية الشعب”؛ لفرض سيطرتها الدبلوماسية عليها، والإبقاء عليها قوية قادرة على صد التحرك التركي، من خلال المواجهة المباشرة أو من خلال حرب العصابات.
ختامًا، قدمت القوى الفاعلة في سورية للبيت الأبيض عددًا من الخطط التي تمنح الإدارة الأميركية الجديدة عروضًا مختلفةً، حول التحرك المشترك نحو انتزاع الرقة، فإلى جانب الخطط التركية، هناك خطتان: إحداهما روسية، والأخرى من ميليشيا “وحدات الحماية الكردية”، وركونًا إلى السمات الواقعية البحتة التي تتسم بها الإدارة الأميركية الجديدة، فإن الخطط الأكثر حظًا للقبول والتنفيذ، هي أقلها تكلفةً على الصعيد العسكري والبشري والمالي، وأسرعها تنفيذًا، وأكثرها مكسبًا على صعيد استراتيجي.