قد يكون جورج أورويل أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى. (اسوشيتد برس)
مع بث “الحقائق البديلة” على الهواء في نشرات الأخبار المسائية، والتحذيرات المشؤومة بـ “المذبحة الأميركية” الصادرة من البيت الأبيض، فإنَّه ليس من المستغرب أنَّ مؤلف جورج أورويل (وهو كاتب المقال ذاته) صار موضوع المقالات الأخيرة في المطبوعات الأميركية، من هافينغتون بوست إلى نيويورك تايمز.
أصبحت رواية أورويل الكلاسيكية التي تحدثت عن الشمولية والمراقبة، “1984” مرةً أخرى أكثر الكتب مبيعًا؛ بفضل الأشياء الغريبة التي تجري في واشنطن، إذ يسارع ناشرها لطباعة نسخٍ جديدة لتلبية الطلب. وعلى الرغم من أننا نعيد المكانة لأعمال أورويل، فإنه أمرٌ يستحق الاهتمام أن نعيد تقييم ما نعرفه عن الرجل نفسه، حول من تكونت بخصوصه كثير من المفهومات المغلوطة والخرافات على مر السنين.
الأسطورة الأولى
يشير”الأورويلي” إلى سيطرة الحكومة المتصاعدة في مقالٍ عام 2013 للمجلة الكاثوليكية المحافظة: أزمة، كتب شون فيتزباتريك: إنَّ الشيء المخيف أكثر حول رواية أورويل “1984” هو “كم تشبه جوانب كثيرة من دولنا الديمقراطية كابوسه البائس”. وصف فيتزباتريك عددًا من ميزات السياسة المعاصرة (مثل قانون الرعاية بأسعار معقولة [المعروف بقانون أوباما كير] والحرب على الإرهاب) بوصفها إشاراتٍ لتقدم: “أيدولوجيات الحكومات الكبرى”.
وغالبًا ما ساوى كتاب آخرون بين مرارة واقع أورويل، وتجاوز الحكومة: “ربما” سيعيد ليبراليو اليوم اكتشاف جذورهم، وسيجدّدون الشك العميق في حكومة مسيّطرة شاملة” مثلما كتب تشارلز هيرت عمودًا في واشنطن تايمز هذا الشهر، محوره عن أورويل.
مع أنَّ الأورويلية لا تقتصر على الحكومة الهائلة فحسب؛ ولكنها عن الاستبداد المقترن بالأكاذيب.
اللغة المخادعة، كما يوضحها أورويل في رواية “1984،” هي اللغة التي تعني عكس ما تقول، ومن الأمثلة المعاصرة، وصف وكالات الأنباء لـ “الأخبار الوهمية” والأكاذيب على أنها “حقائق بديلة”.
“والهدف كله من اللغة المخادعة هو تضييق نطاق الفكر، في النهاية نحن سنجعل الجريمة الفكرية (كل ما تعتقده السلطة الاستبدادية معاد لها من تفكير وتأمل وأي موقف من دون علمها) مستحيلة بالمعنى الحرفيّ، لأنه لن يكون هناك أيّ كلمات لتعبر فيها عن ذلك،” كما تقول إحدى شخصيات أورويل.
وعلاوةً على ذلك، لم يرَ أورويل الظلم الصادر بدقة من الحكومات. في روايته “دع الزنبقة تطير” جواسيس صاحبة منزل جوردون كومستوك( وهو الشخصية المتعلمة والمثقفة في الرواية، ويمتلك مهارات قليلة في الكتابة)، يجعلوه يشعر بفقدان الخصوصية والحرية، وفي مقالته السيرة الذاتية “هكذا، هكذا كانت الأفراح،” يكتب أورويل أنّه في مدرسةٍ داخلية، اشتبه في أنّ مدير المدرسة قد عيّنَ جاسوسًا عليه، مصوّرًا البيئة بأنها قمعية مؤسسيًا، ومعادلها هذا اليوم قد تكون المراقبة الجماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي: الفيسبوك يسجل مشترياتك، والسكايب يتنصت على مكالماتك، وكاميرا الهاتف المحمول عينٌ ترى كل شيء، وفي كل مكان. ويمكن لمجتمع المراقبة أن يكون لديه عدد من الأخوة والأخوات الكبار يراقبوننا، وليس مجرد أخٍ كبير (في إشارة إلى الأخ الأكبرBig Brother في رواية 1984) واحد كليّ القدرة.
الأسطورة الثانية
كان أورويل معاديًّا للدين.
احتوى عمل أورويل شكًّا قويًّا في الدين. في “ابنة كاهن، A Clergyman’s Daughter،” كان لديه كاهنًا شيطانيًّا يتلو الصلاة الربانية بالعكس، وفي “مزرعة الحيوان”، يُمثَّل الإيمان بسخريةٍ كـ “أكاذيب لشائعات موسى، وترويض الغراب” حول جنة حيواناتٍ مفترضة، “حتى في مزرعة الحيوان”، كتب جون روسي وجون رودن في مجلة كومونويل في معرض استعادة لمؤلفها، “وَجد أورويل الوقت للتعبير عن عداوته للدين”، ومقالة روبرت غراي في عام 2011 في المشاهد Spectator بعنوان “أورويل ضد الله” أشار إلى أنَّه “على الرغم من أنه قد يعترف بضرورة الدين نظريًا”، لكن موقف أورويل تجاه الإيمان كان موقف” عداوة عارفة وهادئة.”، قال ذات مرة: إنه لا يقر بـ”عقائد لا يؤمن فيها أحدٌ بجدّية،” مثل “خلود الروح.”
ومع أن أورويل احتفظ بمودةٍ دائمة تجاه الكنيسة الأنغليكانية التي اختار أن يتزوج ويدفن وفق تعليماتها في وصيته، “وفقًا لشعائر كنيسة انجلترا”. وقال: إنّه حافظ على خيالٍ دينيّ، وخصوصًا خلال أيامه الأخيرة، ففي رسالةٍ أخيرة من فوق سريره في المستشفى، طلب أورويل من صديقٍ ما إذا كان إعلانًا عثر عليه في صحيفة، يمكن أن يكون كفرًا، وصديق آخر، زاره قبل وفاته تمامًا، وجده يقرأ الجزء الأول من “الكوميديا الإلهية” لدانتي، ما يزيد من احتمال أنّه كان يُجهز نفسه لنوعٍ من الحياة الآخرة.
الأسطورة الثالثة
أصر أورويل على نثرٍ بسيط وواضح.
في مقالته “لماذا أكتب،” أوصى أورويل بالحفاظ على النثر بسيطًا، مقترحًا أنَّ “النثر الجيد مثل زجاج نافذة” في وضوحه، وقد كانت هذه الميزة ملحوظةً لدى أورويل في كتاباته. وفي مقالٍ للإذاعة الوطنية العامة NPR عام 2006، على سبيل المثال، ادعى المؤلف لورنس رايت أنَّ “أورويل لم يكن مهتمًا بالكتابة الزخرفية، ولكن نمطه المباشر، الإعلاني لديه سخريةً لم يقترب منه كتاب آخرون في أي وقت مضى.”
لم يكن دائمًا كذلك، ففي روايته الأولى “أيام بورمية، Burmese Days،” على سبيل المثال، نجد ما يلي: “على الحدود بجانب حقول الزهور الإنكليزية -الفلوكس والحبق، والختمية والبتونية- لا قتل بعد الآن من قبل الشمس، تتظاهر في مساحة شاسعة وثراء.
كانت زهور البتونيا ضخمة، مثل الأشجار تقريبًا، ولم يكن هناك حديقة، ولكن بدلًا من ذلك، هناك أكمة من الأشجار المحلية وشجيرات أصغر- أشجار الموهر الذهبية مثل مظلات واسعة من أزهارٍ بحمرة الدم، وزهور بلا ثمر، شجيرات أرجوانية، الكركديه القرمزية، والورود الصينية الوردية، الكروتون الأصفر والأخضر، سعف ريشي من التمر الهندي. صراع الألوان يضر عيون المرء من تنافرها. مالي العارية تقريبًا، إبريق الماء في يدIH، تسير في غابة من الزهور مثل بعض الطيور الكبيرة الماصة للرحيق.” وقال إنه يهذي لصديقته بريندا سالكيلد في عام 1933 حول “يا عزيزي “أوليسيس”، اكتشافي الأعظم؛ لأنني اكتشفت فيلون ( شاعر فرنسي من عصر النهضة)،”في إشارة إلى رواية جيمس جويس (أوليسيس) الشبيهة بالمتاهة.
عندما التفت إلى الكتابة السياسية عام 1936، بعد أن عاش مع عمالٍ عاطلين عن العمل في ويجان، في شمالي إنجلترا، وقاتل في إسبانيا، إذ قرّر ذلك، من أجل النزاهة، وقال إنّه يجب أن يكتب النثر الشفاف -الخالي من المصطلحات، والاستعارات المضللة، والكلمات والعبارات الأجنبية، والكليشيهات.
الأسطورة الرابعة
كان أورويل تقدميّا بالمعايير السياسية والاشتراكية
في سيرةٍ ذاتية لأورويل عام 2014، أعلنته “واقعيًّا اشتراكيًّا” و “قديسًا علمانيّا”، بينما أصرَّ جون كاريه في مقالةٍ كتبها للغارديان على أنَّ “أورويل ناطقٌ بالحقيقة؛ إذ جعلت شجاعته واحساسه بالعدالة الاجتماعية منه قديسًا علمانيًّا”؛ وكتب جوفري ويتكروفت ذات مرة في الاندبندنت، Independent إنَّ “القديس العلماني لعصرنا وبامتياز هو جورج أورويل”. وبوصفه تقدميًّا في السياسة، أراد مجتمعًا قائمًا على العدل، كان قد تعرَّف إليه بشكلٍ سريع في برشلونة عام 1936، إذ كتب في “الحنين إلى كاتالونيا“: “كان البشر يحاولون التصرف بوصفهم بشرًا، وليس كما التروس في الآلة الرأسمالية”.
كان أورويل اشتراكيًا، لكنه كان أيضًا واقعيًا، وأعرب عن اعتقاده أنَّه في عام 1940، بعد الهزيمة البريطانية في دنكيرك (ميناء فرنسي احتله النازيون عام 1940، وكان يدافع عنه البريطانيون وبقايا الجيش الفرنسي)، كانت بريطانيا على شفا ثورة. بدلًا من ذلك، ومع مرور الوقت، وعند نهاية الحرب كان قد ألقى بثقله وراء حزب العمال الذي كان سياسته التدرجية الواعية وليس سياسة الثورة العنيفة.
بطرقٍ أخرى، كان تقليديًا محافظًا صريحًا: كان موقفه تجاه النساء والمثليين جلفًا ورجعيّا، إذ أشار صديق أورويل ومعاصره ستيفن سبندر أنّ “أورويل كان كارهًا للنساء جدًا… ضربًا من رجل غريب الأطوار، ممتلئًا بأفكارٍ غريبة وأحكام مسبقة، وكان واحدًا من الذين يعتقدون أنَّ المرأة أدنى مرتبةً وغبية…. حقًا احتقر إلى حد ما المرأة.” وعارض أورويل التوسع الحضري الحديث وتقنية الآلة، ومعظم رواياته، وكذلك قصصه، تكشف عن حنين لإنكلترا الإدواردية (أيام حكم إدوارد السابع الممتدة من 1901-1910)، وإن كانت مجردة من بعض قسوتها وتمييزها.
الأسطورة الخامسة
كان أورويل ساديًّا
وصف راينر هيبين ستول، زميله في السكن، المؤلف بمزاجيةٍ ” تمجد السادية،” يمكن خلالها أن يصبح عنيفًا في الحجج والمناقشات، وجد الآخرون سادية محددة في كتب أورويل، خصوصًا “1984”، وتتضمن مشهد التعذيب؛ نظرًا إلى تصريحات أورويل حول تاريخه (على سبيل المثال، وصفه ذات مرة في مقال، كيف، عندما كان صبيًّا، أنه قطَّع دبورًا إلى نصفين من باب الفضول، وفي مقالة “إطلاق النار على فيل“، كتب أنّه عندما كان ضابط شرطة في بورما استمتع كثيرًا في تخيّلٍ أن يغرز حربةً في أحشاء كاهنٍ بوذي)، يمكن للمرء أن يشك بإنصافٍ أنَّ لديه نزعة عنيفة.
ومع ذلك؛ فقد انتمى أورويل لبعض الوقت إلى حزب العمال المستقل، المناهض للحرب، واستنكر بشدة سادية الشيوعيين في إسبانيا، وشعر بعدم الارتياح من العنف غير المبرر في وسائل الإعلام. قلل مما وصفه/سماه بـ “مجلات اليانكي –مجلة أسبوعية للجيش الأميركي-” ( “هناك الدعوة الأكثر صراحة إلى السادية،” وكتب عن هذه المجلات في مقالته “صحيفة أسبوعية الشباب،”: “المشاهد التي ربط فيها النازيون القنابل على ظهور النساء، ورموهن مجبراتٍ مع ما يحملنه، ليشاهدهن يتحولن إلى أشلاءٍ في الجو، والمشاهد الأخرى التي رُبطت فيها فتياتٌ عاريات معًا عن طريق شعورهن، ونخزهن بالسكاكين لجعلهم يرقصن،… إلخ”) والأفلام الأميركية مثل “معالي سييرا “، الذي يشجع على القسوة الممجدة والعنف، كما فعلت روايات مثل مطاردة جيمس هادلي “لا بساتين فاكهة للأنسة بلانديش.” في نقد “معالي سييرا” في المجلة الأدبية Time and Tide,، كتب أورويل باستخفافٍ، “لمن يريد ساديةًّ مفرطة، وعبادة الفتوة، واللعب بالبندقية، والضربات على الفك ومناخ العصابات بشكلٍ عام، هذا الفيلم هو الدليل.”
لربما كان لأورويل مزاجيةً وبعض الهوس الفضولي، لكنّه بالتأكيد لم يوافق على إلحاق المعاناة بالآخرين من دون سبب.
اسم المقالة الأصلي | Five myths about George Orwell |
الكاتب* | غوردون بوكر، Gordon Bowker |
مكان النشر وتاريخه | واشنطن بوست، The Washington Post، 24/02/2017 |
رابط المقالة | https://www.washingtonpost.com/opinions/five-myths-about-george-orwell/2017/02/24/24ef0572-f9ec-11e6-9845-576c69081518_story.html?utm_term=.66777ca9b703 |
ترجمة | أحمد عيشة |
غوردون بوكر: مؤلف كتاب “جورج أورويل”، وهي السيرة الذاتية للكاتب.