هموم ثقافية

ضد الثورة من أجل وجبة سمك!

فضاء الفيسبوك، على ما يحمله من كتابات سقيمة وعقيمة، وما يكشف عنه من حقيقة المواقف لهذا الشخص أو ذاك، يشكل الوجه الآخر، المكمل، ومن موقع النقيض، لكثير من المساهمات الجيدة والرائعة بجمالياتها الأدبية والفكرية، ودقتها السياسية ووضوح آراء كتابها. وللحوارات على الصفحات قيمة كبيرة لمن يتابع، فتلك الحوارات تأتي أحيانًا بجديد لا يخطر على البال، لكنه جديد يستوقف القارئ، ويزوده بأنساق غير مسبوقة من الحجج والآراء.

غير أن قصتي مع “ذوَاق السمك”، وتحديدًا على شاطئ اللاذقية، لا تنتسب إلى الوجه الإيجابي لما تقدمه لنا صفحات الفيسبوكيين، إلا إذا أخذنا منطق ذوَاق السمك بوصفه كاشفًا لتهافت وتخاذل ونفاق هذا الذواق، ومن على شاكلته.

كتبت له تعليقا على منشور قصير، يتحسر فيه على الحرمان من وجبة سمك في اللاذقية: بإمكانك -حتى الآن- أن تأكل السمك وتشبع رغبتك، لا أحد يمنعك. فرد على تعليقي، قائلًا: “معلوم، أنتم بوضع مرحرح، فيكم تكتبوا اللي بدكم إياه وأنتو برا”، ملمحًا إلى وجودي خارج سورية، فتفاجأت من طريقة رده، وعدت أدقق تعليقي إن كان ينطوي على أي تهمة له وللناس الباقين داخل سورية، بأنهم مقصرون أو متخاذلون، أو مؤيدون للطاغية وسلطته. وقبل أن أحظره راجعت صفحته، فوجدتها صفحة تافهة مزدحمة بالتشكي والتباكي على أيام مضت، وإن اختبأ خلف “فلسطين البوصلة”.

الحادثة تافهة، لكنها تفتح على موضوع كبير يتعلق بسلوك ومواقف الناس في الداخل، أقصد من يكتبون على الفيس أو سواه من وسائل الاتصال.

في موضوع “برا وجوا” عشت تجربتي الأطول من عمر الثورة السورية، داخل دمشق حتى نهايات العام 2015، وكنت أعرف محاذير وأخطار الإفصاح عن موقف مناهض لسلطة الطاغية، لكنني -مثل كثيرين من الأصدقاء الواقعيين والفيسبوكيين والافتراضيين- كنا مداورة، وبعد أكثر من تمرين على صوغ المنشور، نصل إلى كتابة منشور بحيث يلمس -من يقرؤه- أن صاحبه ليس عدوًا لثورة الشعب، وأنه خصم للدكتاتور والطاغية، من دون ذكر الثورة والطاغية، فعلى سبيل المثال، يوم أقدم الحفيد الدكتاتور في كوريا الشمالية بإعدام وزير دفاعه، بطلقة مدفع مضاد للطائرات، وجدتها مناسبة لكتابة نص سيفهم كل من يقرؤه أنني مناهض للبطش الدموي الذي يمارسه الطاغية في سورية. وفي الحوارات حول مواقف الشعراء من الدكتاتوريات، نشرت شعرًا للوركا وبابلو نيرودا، وعلقت عليه بما يوضح -تمامًا- تهافت بعض الشعراء السوريين والعرب، وسقوطهم على بلاط الطاغية. وسواي كثيرون، ممن كانوا في سورية، ومن هم فيها حتى الآن، يستطيع كل قارئ لكتاباتهم، أو تعليقاتهم وحتى إعجاباتهم، أن يتعرف إلى مواقفهم من دون أن يفصحوا عنها. وبلغة جميلة وذكية تحيل إلى عمق موقف من يكتب، وربما تولِّد هذه الحالة في الكتابة نصوصًا إبداعية، أو تعليقات فيها من القوة ما يكفي للتعرف إلى روح مواقفهم من الثورة وضد الاستبداد. والأدب السياسي الذي أنتج في بلاد يجتاحها القمع الشرس، زاخر بالتجارب التي يمرر أصحابها فكرتهم بأقل احتمال للتعرض للمساءلة. وتشهد “كليلة ودمنة” لابن المقفع، وغيرها من كتب التراث العربي، على الذكاء في طرق المواقف عبر قصص تدور بين الحيوانات.

كم من الكتاب على الفيسبوك، من المقيمين في الداخل، يقدِمون، بالنص الساخر، أو بالعبارة الرمزية، نصوصًا رائعة تقارب -مداورة- حجم الكارثة التي أدخل الطاغية البلاد فيها. وعلى سبيل المثال في الموقف من “الإسلام السلفي” داعش والنصرة وتفرعاتهما، كان الكتاب في الداخل والمؤيدون للثورة، يضعون إشاراتهم الواضحة على فكر الملالي في طهران وحزب الله، بوصفهما جزءًا من السلفية وإن تباين المذهب. وهذه لوحدها تكفي لتبيان موقفهم من حلفاء النظام، ويفهم منه موقفهم من النظام أيضًا؛ حتى في الكلام عن بوتين ثمة رسالة توضح موقعهم من الصراع الجاري، دون التعرض الحتمي للبطش والقمع.

بالأساس والمبدأ، لا أظن أن أحدًا من المنحازين للثورة، أو الناشطين في أحد ميادينها، من المقيمين في المنافي، يطلب من المقيمين في سورية تحت مقصلة الجلاد، وبين براثن التوحش، الإقدام على كتابة صارخة ضد الطاغية، ولا عاقل يتهمهم؛ حتى في صمتهم، أنهم في خندق الطاغية القاتل. علمًا أن عددًا كبيرًا منهم يجاهر بموقفه، دون مواربة وبلا أي حذر، غير أن الادعاء بحماية الذات من الخطر والقمع، حين يصل بصاحبه إلى الغمز من قناة الثورة، وكيل الاتهامات لها، أو الاستهزاء بها من خلال ” نشر غسيلها”، وتظهيره وسخًا أكثر من الحقيقة والواقع، هنا لا يكون الأمر حماية وحذرًا، بل محاباة للسلطة المستبدة.

صاحبنا “ذوَاق السمك” الذي حرمته الثورة من التمتع بوجبة شهية على شواطئ اللاذقية، حوَل القصة إلى التضاد بين من هم في الخارج، ويكتبون على راحتهم بكل اطمئنان، ومن هم في الداخل وسيف القمع مسلط على رؤوسهم. وحشر نفسه ضمن المعارضين” الصامدين” في الداخل، واستفزَ عندما قرأ ردًا: بإمكانك التمتع بطبق شهي لا أحد يمنعك! فعدّه اتهامًا له بالوقوف ضد الثورة. وهو في الحقيقة كذلك، فأزمته كلها هي وجبة سمك في الصيف البحري، والأوضاع التي نشأت بتداعيات الصراع أحبطت طقوسه ورغباته. ولسان حاله يقول: “كنا عايشين”.

هكذا من أجل وجبة سمك أطلق “الذواق” النار على من منعه من تناول وجبته المفضلة، وهي –كما يظن- الثورة التي قلبت الوضع في سورية على كافة المستويات.

مقالات ذات صلة

إغلاق