مقالات الرأي

في نقد مصطلح “الأزمة” في إدراكاتنا السياسية

يُعدّ مصطلح “الأزمة” أحد أكثر المصطلحات تداولًا في الأدبيات السياسية العربية، ولا سيما في الوسائل الاعلامية؛ إذ إنه يستهوي الصحافيين وأصحاب الرأي والقادة السياسيين. فهذا المصطلح يدل على كل شيء بكلمة واحدة (الأزمة)، من دون أن يوضح أو يعني شيئًا بعينه.

وبطبيعة الحال؛ فإن جميع الظواهر والعمليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، تتضمن بالضرورة أزمة ما، أو نوعًا من إشكالية، بحكم التعقيدات والتناقضات التي تحكم مسارات تطور هذه الظواهر أو العمليات، وبحكم الفاعلين الذين يقفون وراء كل منها، وأيضًا، بحكم أن كل ظاهرة تستثير نوعًا من ممانعة من قوى لا تجد لها مصلحة فيها، كما تستثير نوعًا من النقد أو الرفض من قوى تجد أن لها مصلحة في تجاوز هذه الظاهرة، إلى ما بعدها.

منذ أن تفتحت مداركنا على الأدبيات السياسية تعايشنا مع مصطلح الأزمة، حتى بات ملازمًا لنا في كل تعبيراتنا وأنماط تفكيرنا؛ فثمة أزمة في كل شيء، هكذا ببساطة، إلى درجة بات معها التمييز بين أزمة وأزمة، أو بين أزمة ومشكلة عارضة، نوعًا من الترف أو الفذلكة الزائدة عن الحاجة، وربما وصل الأمر بنا إلى اعتياد التعايش مع الأزمات والتأزمات في أحوالنا، لدرجة أننا بتنا، على الأغلب، نعدّها سنّة طبيعية من سنن الكون، أو كأنها قدرًا “ربانيًا” لا راد له.

هكذا سحب مصطلح الأزمة نفسه وبقوة على طريقة تفكيرنا بأوضاعنا التي غالبا ما تكون انتقائية وجزئية وسطحية ومتسرعة، فأوضاعنا المتأزّمة من كل النواحي: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، منذ قرن أو منذ نصف قرن، هي لازمة طبيعية، بدليل أن هناك أزمات في العالم، في أوروبا وفي الصين، وكذلك في الولايات المتحدة. والنتيجة المنطقية لهذا “اللامنطق” في التفكير، تفيد بأن أزماتنا، أو التأزم في أحوالنا، يشابه الأزمات الحاصلة في أي بلد من بلاد الله الواسعة. فالأزمة الاقتصادية التي تأخذ بخناقنا، مثلًا، هي شيء عادي، بدليل أن ثمة أزمة في ماليزيا أو في الولايات المتحدة، والأزمة عندنا كما عندهم، وكذلك الأمر في المجالات السياسية والاجتماعية. فعندنا ثمة أزمة ديمقراطية، والديمقراطية عندهم تعاني من أزمة. وعندنا أزمات اجتماعية (بواقع التباينات الطبقية والطائفية والاثنية) مثلما عندهم، وهكذا!

وإذا استعرنا مصطلح الأزمة في مجال الصراع العربي – الإسرائيلي، على سبيل المثال لا الحصر، سنجد الأعاجيب. فإسرائيل، مثلًا، دولة مأزومة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا؛ ما يوحي وكأنها توشك على الانهيار والأفول، بطريقة أو بأخرى، وكأن أوضاعنا على ما يرام، من كل النواحي، أو أن أوضاعنا على مايرام لولا التدخلات الخارجية، في تغييب مذهل للأسباب الداخلية في جمود أو تكلس أحوالنا.

المشكلة أن المتحدثين بهذه اللغة، يسبغون نوعًا من التمني والإرادوية على تحليلاتهم السياسية التي ينبغي أن تكون موضوعية وعلمية؛ حتى تؤتي أكلها. فهذه اللغة الخطابية التحريضية تفتقر للعلمية، وأصحابها لم يتمعنوا قليلًا في الإحصاءات والأرقام والمعطيات التي يبنون عليها فرضياتهم الانتقائية المستعجلة.

في حالة إسرائيل، مثلًا، لا بد من القول بأنه من الطبيعي أن يكون لهذه الدولة، كأي دولة أخرى، أزماتها وتناقضاتها وإشكالاتها، لأسباب ذاتية وموضوعية، ولكن مشكلة هذه الخطابات أنها غالبًا ما ترى الأزمة عند عدوها، وتفسر تحركاته بالتهرب منها، في حين أنها لا ترى أزماتها أو تناقضاتها أو تهرباتها هي، هذا أولًا؛ وثانيًا، فإن هذه الخطابات تحاول أن تسطح مفهوم الأزمة، وأن تتعامل معه انتقائيًا ووظيفيًا، وليس وفق رؤية استراتيجية متماسكة؛ وثالثًا، فإن هذه الخطابات تعوّل على الأزمة لدى العدو، لتأكيد حتميات فشله أو انهياره، أكثر من تعويلها على قدرتها أو على طريقتها في مواجهته؛ ورابعًا، أنها تقيم “مساواة” بين غير “متساوين”، فكما للعدو أزماته فنحن لدينا أزماتنا!

من كل ذلك يمكن التوصل إلى عدة استنتاجات، من ضمنها:

أولًا، إن الأزمات ظاهرة طبيعية في أي دولة أو أي مجتمع، والمسألة الأساسية هنا لا تكمن في وجود الأزمة، وإنما في كيفية التعامل معها، وفي كيفية تجاوز آثارها السلبية، وربما في كيفية استثمارها في تحفيز الطاقات، واستنفار الامكانات، لتحويل الأزمة من معطى سلبي إلى معطى إيجابي.

ثانيًا، إن أزمات اسرائيل، غالبًا هي أزمات فائض قوة، في مختلف المجالات، بينما هي على الجانب العربي أزمة ضعف وعجز وتفكك، وغياب الإرادة اللازمة، والإدارة الصحيحة، لذا؛ ليس من المناسب قياس أزمات العرب بأزمات إسرائيل (فضلًا عن قياسها على أزمات الولايات المتحدة) من النواحي المختلفة.

ثالثًا، من الخطأ التعويل على أزمات إسرائيل، أو المبالغة فيها، في إدارة الصراع معها، فإسرائيل تمتلك الإدارة الملائمة للتعاطي مع أزماتها وتحويلها أو تصديرها، أكثر من قدرة العرب على ذلك، في ظل أوضاعهم الحالية، والأفضل للعرب -في هذه الحال- الالتفات لمعالجة أزماتهم ومشكلاتهم، في أسبابها الذاتية التي قادت إلى ثورات الربيع العربي، بدلًا من التهرب منها، أو وضعها على مشجب الصراع ضد إسرائيل، أو التسلي بعدّ إسرائيل أو الولايات المتحدة تمران بأزمة، وتعملان على تصديرها إلينا!

قصارى القول، مطلوب أن نفكر أكثر في أزماتنا التاريخية، نحن، المتمثلة بانسداد مسارات التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي العربي، والتفكير بالانتقال من السؤال لماذا، إلى السؤال كيف؟

مقالات ذات صلة

إغلاق