في البداية لا بد من توضيح مغالطة فنية سائدة، وهي الخلط بين الإيقاع Rhythm والوتيرة tempo، إذ كثيرًا ما يُتعامل مع الإيقاع بوصفه وتيرة، أو العكس، وهذا الخلط أكثر ما يتجسّد، مع قراءاتنا ورؤيتنا للسينما والفنون عامة. يتكثف خلط هذين المفهومين، في تناولنا أو مشاهدتنا للسينما الأميركية الحديثة، إذ يعدّها كثير من العاملين في السينما في بلادنا، على أنها ذات ايقاع عال، بينما الصحيح، أن كثير من هذه الأفلام ذات وتيرة عالية، وإيقاعها ليس خارجًا عن المألوف.
وإذا عدَدنا الإيقاع، في الضرب باليد على طاولة، على سبيل المثال لا الحصر، ثلاث ضربات متواترة، فإننا نسمي ذلك إيقاعًا ثلاثيًا، فالوتيرة هي المسافة الزمنية ما بين هذه الضربات الثلاث، وإذا واصلنا هذه الضربات، بتوالٍ، وحافظنا على تلك المسافة، فإن الوتيرة تبقى واحدة، والإيقاع الثلاثي ثابت، وإذا غيرنا المسافة بين الضربات، تتغير الوتيرة، لكن الإيقاع لا يتغير، هنا سر اللعبة السينمائية الأميركية، إذ تلعب فنيًا على الوتيرة، لكنها لا تغامر في الإيقاع، لأنه شرط فني، بينما تتبع الوتيرة مزاج وسايكولوجية المتلقي الأميركي الذي يعيش في وتيرة عالية.
السينما تتطلب في الفيلم إيقاعات مختلفة ومنسجمة فنيًا، مع الإيقاع العام للفيلم الذي يحمل وحدة إيقاعية، أما الوتيرة فمتغيرة، بحسب المشهد والبناء الدرامي من تصاعد وتشويق وصراع إلخ.
يتشكل الإيقاع ابتداءً، من كتابة السيناريو السينمائي، من خلال ضبط ايقاع توالي الأحداث، وضبط الحكاية السينمائية، وبناء إيقاع الحوارات بين الشخصيات.
لذلك؛ يتوجه صانع الفيلم نحو النص، لدراسة ايقاعه وضبطه، حيث من اللازم، معرفة البنائية الإيقاعية للنص، دراسة لا تختلف عن دراسة العناصر الأخرى، من خلال ضبط حركة الشخصيات وأفعالها وحركتها.
المخرج الذي لا يستطيع السيطرة على إيقاع فيلمه مسبقًا، من خلال النص “السيناريو”، في بناء تكوين كل مشهد دراميًا وصوريًا، سيجد نفسه خلال التصوير غير مسيطر –أيضًا- على وحدة رؤيته الفنية إيقاعيًا، مهما حاول المعالجة عن طريق تسريع اللقطات في المونتاج، وهذا ما يتم عادةً، بسبب عدم الانتباه إلى إيقاع النص سلفًا.
كل مشهد يحمل ايقاعين، ايقاع داخلي في بنيته الداخلية، وإيقاع خارجي مرتبط في بنية الفيلم الكلية، عناصر المشهد الضوئية لها ايقاعها، وعناصر اللون له إيقاعه، والحبكة والتمثيل… والإيقاع المشهدي هو الإيقاع الأصعب في الفيلم.
لذلك؛ سرعة التقطيع والتنقل من لقطة للقطة، مرتبطة بالوتيرة وليس بالإيقاع، فاللقطات السريعة وهم إيقاعي وليست إيقاعًا. فالإيقاع يُنتج الوتيرة وليس العكس.
في أفلام المخرج المبدع الروسي تركوفسكي، المميزة باللقطات الطويلة، وتحتاج أحيانًا لبكرة الشريط السينمائي كلها، (نحو 10 دقائق) ومن دون توقف، أو قطع، نجد الإيقاع المشهدي يعتمد على حركة الممثل الداخلية، وحركة الكاميرا، أي بناء الإيقاع الداخلي، بتزواج مدروس بين حركتين ممتزجتين بإحكام، حركة الشخوص وحركة الكاميرا، في “ميزانسين”، منضبط، يضبط معه التكوين الجمالي للمشهد.
إنه المونتاج الداخلي للفيلم وخلق وتائر فنية مدروسة، مسوغة بالأفعال الدرامية المؤثرة في الحدث. وهي أسلوبية اتبعها كثير من المخرجين، مثل انطونيوني وكابرين وغيرهم. لذلك؛ سرعة التقطيع في المشهد السينمائي لا يسعف الإيقاع غير المدروس، أو الضعيف من أساسه.
إن الإيقاع السينمائي يمر بمراحل بناء الفيلم جميعها، فهو ليس قيمة جامدة ثابتة، بل هو فعل متبدل، يمكن تفعيله، والسيطرة عليه، من خلال كل مرحلة من مراحل صناعة الفيلم، وكل مرحلة للإيقاع سمته الخاصة:
- مرحلة السيناريو وبناء النص.
- مرحلة كتابة النص الإخراجية “ديكوباج”.
- مرحة التصوير.
- مرحة المونتاج.
- مرحة المكساج ووضع المؤثرات.
وهذه المرحلة الأخيرة “تركيب الموسيقا والمؤثرات الصوتية”، لها دور حاسم في ضبط إيقاع الفيلم النهائي.
الإيقاع -إذن- لغة خاصة، يختارها المخرج لفيلمه، منذ اللمسات الأولى، ويكون متخيلًا في الرأس، كالصورة تمامًا. إنه أشبه بالوزن الموسيقي للقصيدة الشعرية، وهو ضرورة فنية، فلا عمل فني من دون إيقاع. لذلك؛ لا عجب إن ظهر، في ما بعد، شيء يشبه البحور السينمائية، التي تتكون من تفعيلات خاصة بالفيلم السينمائي.
الإيقاع أساسه النبض، دقات قلب الإنسان، كما هو أساس خطواته الأولى في الحياة. إنه كثافة الأحاسيس التي تتخلل العمل الفني للمبدع. وهو القوة الخفية التي تسيطر على عنصري الملل والضجر لدى المتلقي، إنه القوة الجاذبة لتوريط المتلقي في الانسجام مع العمل الفني، وبخاصة في فن السينما.
إن المشاهد لا تغويه كل الحكايات الجميلة، والجماليات المدهشة التي يكون فيها الإيقاع مشتتًا، إنه كنشاز الموسيقا الذي يؤلم الأذن، فلا إبداع بلا إيقاع، لكن السؤال هو: أي إيقاع؟