مقالات الرأي

في شموخ السنديان الثورة

عندما ضجت شوارع المدن العربية، في عواصمها الكبرى والتاريخية، في تونس في القاهرة في صنعاء وعدن وفي دمشق وغيرها من عواصم الاستبداد العربي التاريخي، في الساحات والشوارع، في القرى والمدن كان المشهد جميلًا، وسنديان الحرية كان يشمخ عاليًا، ولربما كانت كلمة جميل لا تفي بالغرض السياسي، لكنها ترتقي للمعنى الفلسفي الأخلاقي والتاريخي، فالجمال هو القيمة العليا النسبية التي تحد من إطلاقية الجلال وعظمته. جمالية المشهد ليست وصفًا غزليًا ولا رومانسية هلامية، بل روح أمة تنهض من تحت ركام الاستبداد، ومسيرة شباب ترنو إلى مستقبل يضاهي مصاف الأمم المتقدمة والمتحضرة.

الشباب العربي، وليس لأنه عربي بالهوية الشرقية صفة، بل لأنه يكتنز القدرة والإمكانية على أن ينافس في المحافل الدولية في كل مجالات الحياة التقنية، المادية منها والمثل العليا الفكرية والأدبية والثقافية أيضًا، الشباب العربي الذي لم يقنع يومًا بعجزه ولا بشرقيته الموصوفة بالعالم -ثالثية، من حيث القدرة والتفكير المحدود؛ وُجد الشباب وبدأ التاريخ يكتب، ولن يتوقف بعد اليوم، كما كان، لكنه رسم خط المفارقة والانزياح نحو الوصول إلى ما يرغب، وإلى ما يحمل من جماليات وإمكانات خلاقة ومبدعة، وإن تأخر زمن استقرارها وإنجازها.

من مفارقات التاريخ الغريبة وخداعه أنه يخرج عن مسار المثل العليا في القيمة والمعنى، لكنه في الجذر لازال يتمكن من قعر صناعة البشر ومصيرهم، فالتاريخ سبب ومحرك في ذاته. من المفارقات تلك أن تبدأ بوابة الرعب والمرض العصابي وشهوة القتل بالانفتاح رويدًا رويدًا، وتزداد دوائرها اتساعا وتبدأ بابتلاع الشباب، وإجهاض فورتهم يومًا بعد يوم، ليستحيل السنديان حطبًا والحرية ودولة القانون تستحيل وبالًا، فقد أراد العالم أن يجعل من ثورات الربيع العربي وبالًا على شعوبها، لأنه أدرك خطرها الفعلي على تفاهمات مصالحه الكبرى في الإبقاء على دول المنطقة مسلوبة الإرادة، دون دولة وطنية ذاتية الهوية والتعريف، لتساق معها مسارات الثورة وجمالياتها، عنوة، نحو استقطابات وبؤر لم يكن يريدها لا الشباب في فورتهم، ولا مسار التاريخ في صيرورته.

الإعاقة والخذلان، الامتصاص والتحوير، زيادة الكلفة البشرية، التباين في التوصيف، والتحكم والإدارة هي معالم ومسارات العالم، مقابل الربيع العربي عامة، والسوري خاصة، حيث تعاملت كل السياسات الدولية على ترويض الثورات وإحكام السيطرة على مسيرها، وذلك من خلال البنى المجتمعية الداخلية ذاتها. هذه البنى التاريخية الداخلية تفترض مواجهات ثلاث على شباب الثورات خوضها، وهو الذي اعتقد بداية، لحلم أو لقلة خبرة، أو لأن التاريخ ماكر بذاته، أنه في مواجهة وحيدة ووحيدة فحسب، هي نظم القهر والاستبداد، فكان أن ضجت الشوارع والحارات يسقط الاستبداد، يسقط النظام. تلك المواجهات المستبطنة والمختفية في قاع المجتمع، ولم يرها الشباب في حينها، بدأت بالظهور والإفصاح عن نفسها، وبدأت تأكل مسيرة الثورات، وتنحرف بها إلى عوالم السلطة والحكم والعودة إلى ما بدأت منه الثورات:

1 – مواجهة أولى كانت، ولم تزل قائمة، مع الأيديولوجيات السياسية التاريخية الموصوفة بالمعارضة لأنظمة الحكم القائمة، وهي وإن تباينت مفرداتها ومصطلحاتها ومشروعاتها، بين قومية مريضة تقرض الدولة الوطنية لليوم، وماركسية شعبوية فارغة من روحها وجدلها، وليبرالية نفعية لم تشكل لها بعد الحرية والعدالة جذرًا، هي ذاتها الأيديولوجيات المهزومة أمام سلطات الحكم في تشظيها التاريخي وميولها نحو الانتهازية والوسطية في كثير من المواقف والمفاصل التاريخية، وهي ذاتها في الجانب الآخر المقموعة تاريخيًا، وتصيبها نوبات القهرية والكيدية السياسية؛ كونها لم تستطع أن تكون مشروع سلطة يومًا، وبدل أن تلتحق بمشروعات الثورة عضويًا، عاداها أغلبها، وابتز بعض أخر منها فوران الشباب، وأحالها إلى سلالم وصول نحو الحكم.

2 – مواجهة ثانية هي الأخطر، وربما ستكون الأقسى تجربة، تلك المواجهة التي تعبر عن نفسها بشقين واضحين، هما وجهان لعملة واحدة: الأول اجتماعي؛ يتضح من تكلس للبنى المعرفية للمجتمع، وغرقها في فكرها الماضوي الرافض والنابذ لفكر التحرر والعصرية، وغير القادر -إلى اليوم- على إفساح المجال للشباب بقيادة المستقبل، مرة لتمترس عنيف في القاع الموروث لشهوة التسلط والحكم، حتى وإن كان في أبسط أشكاله السياسة، وأعقدها معرفيًا، من خلال شبهة نصية دينية أو طائفية أو مادية، أو كلها مجتمعة، ترفض التحديث والتحرر؛ لأنه سيقوض أساس وجودها الوصائي المهيمن، والأخرى مما أنتجته سياسيًا ومكنته ماديًا من أحزاب دينية وطائفية محلية أصبحت صاحبة المصلحة الفعلية من فراغ السلطات المقوض بفعل الشباب أصلًا، وباتت اليوم خطرًا واضحًا على مشروعات الدول الوطنية وإنجاز ثوراتها.

3 – ومواجهة أخرى هي عنوان مواجهة الحضارات وصدامها، هي المواجهة الثالثة التي لم تتكشف عناوينها -بعد- بشكل دقيق، يُميّز منه الخيط الأبيض من الأسود، وتبدو عتمتها لليوم هي الغالبة، فعلى الرغم من فتح البوابات الغربية أمام الشباب العربي النازح والمهجر من أرضه، وخاصة السوري، وانفتاح كل الإمكانيات الذهنية والروحية أمام إبداعه الفردي، خاصة الذي بات مرتقبًا في معظم عواصم دول اللجوء، فهذا يتفوق علمًا وذاك شعرًا والآخر فنًا، ولازال الطريق مفتوحًا عن وسعه؛ فقد أسقط بيد الشباب المصري بثورته الثانية، أمام حُكم العسكر والرعاية الغربية له، ودخلت ليبيا التجربة ذاتها، ولم تنج إلى اليوم، بينما غرق اليمنيون والعراقيون والسوريون في مستنقعات الدم الحرام، في حروب إقليمية تغذي وتذكي نزعة الماضي الكريه والثأرية الدينية العفنة، وتستثمر مظالم الشعوب وتمسكها بحبال النجاة، ولا يلوح في الأفق المعتم هذا سوى تفاهمات دولية على اجتثاث الربيع العربي من جذره، عبر أياد إقليمية وميليشوية طائفية تتغذى من مشروعات إقليمية، تنحو اتجاه الهيمنة والسيطرة وتفتيت المنطقة لمصالح إقليمية ودولية، أقل ما توصف بالانزياح نحو الوحشية والبدائية في الوجود الإنساني.

جمالية الثورات من جمالية شبابها، من روحها المتجددة، من جذوتها وألقها، وحيث أنه ما من ثورة تنتهي أو تقف عند حدود كسب سياسي لسلطة بعينها، أو خسارة موقع فيها، فهذا راهن وموقت، بل تستمر وتكمن فترة؛ بغية إعادة ربط مفاعليها الجمعية في مفصلة مواضع صراعها، وتحديد هويتها الفكرية والثقافية، وإن كان المشهد لا زال قاتمًا، خاصة في سورية، إلا أن سقوط الاستبداد النفسي والمعرفي هو المعلم الأكبر والأكثر إشراقًا فيه حتى وإن تأخر منتجه السياسي، وما تزاحم الأمم والدول الكبرى وتسارع خطواتها مرة لكسب الشباب وأخرى للتفاهم حول تقاسم منتجه السياسي وبالنتيجة الاقتصادي وبتر دولته الوطنية، إلا دليل على أن شباب الثورات ينزاح نحو القمة في القيمة، وينحط السياسي والديني والنفعي نحو الحضيض أمامه، والفيصل في المآل الأخير للتاريخ والقيم الحضارية، وإن تأخرت في البزوغ والنمو الجمعي العام، فحيث لا يمكن للسنديان أن يختار، فقدره الشموخ نحو السماء، أو أن يكون حطبًا في المدفأة، سيبقى الشباب وقود الثورة ولحظات شموخها أبدًا.

مقالات ذات صلة

إغلاق