سيُخيّلُ إليك، وأنت تقترب من “مملكة العظام” لصاحبها أحمد ضياء، أنّك مصاب بحالة من الغثيان والجنون والصداع والمرض، أو ربّما أنت في متاهة، وعليك أن تعبر في سبيل حرّيتك، أكثر من مسلك تتداخل طياته تداخلًا بالغ التعقيد، فأنت لست أمام مجموعة شعريّة مألوفة، أو ركام من الورق، يتطلّب مرورًا من صفحة إلى أخرى، بل أنت إزاء صورة مشهديّة قائمة على التشظّي، فثمّة أشلاء من الحروف وكلمات مبعثرة، وجُملٍ كتبت بخط سميك، وأخرى بخط أقلّ سمكًا، بينما وزّعت على البياض بأشكال مختلفة، فولّدت جسدًا لغويًا ممزّقة أوصاله، رافقه رسم داخليّ لخارطة سطح البسيطة، مُحاطٌ هو الآخر بدائرة يشقّها رسم لمثلّث، كأن الكتابة توحي بأنّها عشب الأرض، العشب الذي لا ينمو إلا إذا دمعت عيون الغيم ورموشه. لقد تحوّلت القصيدة إلى محض صورة، صورة تجمّع العالم برسم أوصاله المقطّعة في فضاء لغويّ هو في حقيقة الأمر، ديوان طبع على ورقة واحدة، وكأنّها –بضرب من التأويل الحرّ- تمثّل مقبرته، ومقبرة الكون، هذه التي حملت عنوان “مملكة العظام”.
في أقصى اليمين، تنمو الكلمات فلا توحي بشيء؛ لأنّها قرّرت أن تكون “كلّ الأشياء” فلم تكن شيئًا، ثم تصعد في شكل سلّم إلى أعلى الورقة مكرّرة حروفها وألفاظها بخطّ أقلّ سمكًا، إلى أن تبدأ في الاضمحلال. وفي أقصى اليسار تبدأ قصيدة “الميتافيزيقا تكلّل بالربو” في النزول إلى أسفل الورقة، بينما سطورها مثل موج ينقلب على ذاته، فلا تُقرأ في اتجاه واحد إلا إذا قُلبت ورقة الديوان الشعريّ برمّته، في أكثر من موضع، حتّى أنّه يتسلّل إليك -قارئًا- ضرب من القلق والصداع، ولكنّه يبدو مشتهى، فتسارع إلى جعل الورقة يافطة قابلة للتعليق وفق مزاجك. أمّا في أسفل الورقة وأعلاها فقد خطّت كلّ من قصيدة “حفاظة العائلة وقصيدة “كابينة لتوليد المقابر”. اشتركت هذه القصائد الأربع في محاصرة قصيدة “دمع المقص” المحاصرة بدورها عبر الخطوط التي شكّلت رسم المثلّث، المحاصر هو الآخر في الدائرة التي حاصرت بدورها رسم سطح البسيطة، بينما جسدها الكتابي وجد إقامته في وسط الورقة.
يوحي هذا الشكل الكتابيّ بعاصفة تخريبيّة، تخلخل الثّابت من أنماط الكتابة، والسّائد من التدوين الشعريّ، كما يوحي ضرورة إلى كسر الأجناس الفنّية بالجمع بين الرّسم والشعر، وهذا سلوك يحيل إلى أنّ التجربة الجمالية في “مملكة العظام” تجد اشتغالها في تيّارات ومذاهب جديدة لا يمكن وضعها إلا في “ما بعد حديثة”، بوصفه عنوان تجاوزٍ عقم الحداثة نفسها، وما تخلّله من عجز تجاه وعودها التي قدمتها للبشريّة، فأضحت اليوم بوابة عبور إلى مشاهدة القرابين البشرية لا غير.
في المقابل، يشير هذا التوزيع البصريّ لمجموعة “مملكة العظام” إلى جسد كتابيّ ممزّق، غلب عليه طابع التشظّي، ما يؤكّد أنّه إحالة إلى جسد آخر هو جسد الأرض، ممزّقة الخرائط، بفعل سياسات التقسيم الكولونياليّ، وبفعل الحروب وهجرة اللحوم الآدمية من بقاع إلى أخرى، من شدّة الرّعب وهول الدمار، حتّى أنّها تحوّلت إلى وطن بشريّ من مقابر، ومملكة من خراب. ما يؤكّد ذلك هو تلك الموضوعات التي تناولتها القصائد الخمس ومتونها، إذ جعلت من الموت محرّكها، والدم مدادها، والأوصال البشرية أوتادها، فكانت مدلولاتها حبلى بالاختناق، ما يحيل إلى أن الغيمة التي تمطر عشب الحروف والكلمات وأسلوب الكتابة، ما هي إلا ضرب من ضروب الصدأ المتقاطر من فوق، أو اللعنة التي وجدت في حالة القحط البشريّ وجرائمه الآنيّة، ذريعة للظهور.
في الرّثاء يبكي الشاعر غياب والده فيسأل الـله، وفي الحرب يسأله أيضًا، وفي الكفن يكرّر سؤاله، وأمام أحشاء الموتى التي اختلطت بالتراب يعيد سؤاله مرّة أخرى، ثم يصرخ: “ماذا لو أنّ عزرائيل أخذ روح الـله، وخرّ فزعًا منتعلًا قبره”، ويا لهول هذه الصورة: لقد جعلت من عزرائيل –هذا الكائن الميتافيزيقيّ- المرعب والمخيف، ينتعل قبر الآلهة، ثم يطوف أرجاء الأرض ليكمل مهمّات الموت، ولكن كيف يموت الـله وهو الذي يستوطن النصّ الشعريّ ويسكنه؟ أليس فعل الكتابة في زمن الدمّار هو نوع من زراعة الحبّ في العالم؟ أليس اللـه أمل الإنسانية الأخير؟
أجل، إنّ الـله -هنا- يسكن برّية الكلمات، خارج نزاعات التقاتل والدم، التي أفضت إلى إدانته، وإلى جعل الموت إلهًا جديدًا بدلًا منه، الموت الذي يفترش سطح البسيطة، ويكسوها بجلود القتلى، ثمّ يعمّرها بخيام لها أوتاد من عظام بشريّة، تبحث لها في الغبار البشريّ المتطاير من هول الحروب، عن سرديّة جديدة تفسّر هذا العالم، فلم يعد يخجلها أن تقدّم نفسها على أساس أنّها مملكة وجودنا الأخير، بوصفه أصبح متماهيًا مع نقيضه: العدم، يتنفّس الأكسيد، ويقتات من أشلاء الموتى، ويرضع حليب لحمٍ تعفّن في القبور، ثمّ يطوف بالكارثة عنوانًا مقدّسًا جديدًا، لقد أسقطت بنادق الحداثة، المحمولة في أكفّ الرجعيّة، ذات الـله من السماء على الأرض، فلم يعد ثمّة غير عزرائيل يعلّق يافطات العدم على جدران مدن الرّماد والحرائق، ويسأل الجرحى عن معنى وجوده قربهم، بينما يرفس بأقدامه رؤوس بعضهم ويضحك انحيازًا للمحرقة.
تتحوّل الكتابة في تخوم كارثة كهذه إلى وجود لغويّ يقول ما لم يستطع الإفصاح به عدم الرّاهن من الجنازات، فيبقى لـلّه بهاؤه، خارج النصوص المقدّسة التي تحوّلت إلى حصان طروادة في يد الجحيم، ثمّ قدّمت نفسها فيما بعد، على إنّها نقاباته التي تدافع عنه ضدّ الدكتاتوريات والسياسات الاستعمارية، وتبقى للشعر أنصاله التي تمزّق أوصال السائد من الكتابة، وإنقاذ العالم من سوداويته، وزرع غابة من الأمل، كأن يكون قبل خدمته للثورة، ثوريّ ضد أشكال الكتابة ذاتها: إن قدره لا يمكن إلا أن يتموضع في رحاب الحب والتجاوز.