لا يمكنني نسيانهما.. تحت كتابينا أو دفترينا، طوال دروسنا كلِّها، على مقعدٍ خشبيٍ، في صَفٍّ مدرسيٍّ واحد.
هل كانَ قدرنا أننا والبَيَاضُ صِنوَان، من بياضِ الورقة، إلى بياض صفحة “الوورد”، إلى بياض الكفن؟!.
يُخربشُ عَبُّود بقلم الرصاص، أولَ رسومِه. أخربشُ بقلم الرصاص، أولَ نصوصي. كأنّما ليستفيقَ البياضُ من نَصَاعَتِهِ، كأنَّما لِنُلوِّثَهُ بِهَواجِسِنَا وبأحلامِنا الأولى، بقلم الرصاص أو بالحبر، أو بالألوان، أو بِنَزَق الأسئلة.
لا يكتَمِلُ بياضُ الأبيض إلا بلونٍ آخرَ -بنقيضِهِ غالبًا- وبطيفٍ من الألوان ناريّةً وتُرابيّة، ليكتملَ معها بياضُه.
يخطُّ عبّود خطًا في الأفق الأبيض، تِلوَ خطٍّ، وأخطُّ حرفًا على السطر، تِلوَ حرفٍ؛ ثم نُخفِي الورقتين بهدوء حين يمرّ أستاذنا في الممرّ الضيّق بين المقاعد.
سألني عبد القادر في الاستراحة ما بينَ درسين:
– أَشًو عم تكتب؟
أُجيبه: – مُخطَّط قصَّة طويلة كتير.
– عن أَشُو؟
– عن اليتيم.
– من أسبوع حضرنا الفيلم الهندي: “اليتيم”.
– عن يتيمنا نحن يا عبّود، وأنت؟
– لوحة، قصدي.. مخطط لوحة كبيرة كتير.
ما أذكره.. أنِّي ما زلتُ أحتفظُ بتلكَ الورقة لمُخطَّطِ قصةٍ لم أكتبها، بين أرشيفي في قبوِ بيتِ العائلة، تنتظر مع مَن بَقِيَ في إدلب، قَصفَ طيورٍ أبابيل بأحدثِ الصواريخ القاتلة.
بعد 40 عامًا.. سألتُ عبد القادر عبد اللّي، ونحن في تغريبتنا الإسطنبولية، عن الورقة التوأم، عن مخطط لوحةٍ كبيرةٍ جدًا لم يرسمها، أجابني:
– أخذتها الريح.
تذكَّرنا -أيضًا- أولَ عَمَلٍ مُشترَكٍ بيننا، على المقعد المدرسيِّ المُشترَك إيَّاه. كنتُ وقتها قد جِئتُهُ بدفترٍ جرى تصنيعُهُ يدويًا في “مكتبة القباني” بغلافٍ من كرتون: كتبتُ فيه أولَ تمثيلية، هكذا كنّا نقول عن النَصِّ المسرحيّ، مُستَوحَاةٍ من قصَّة النعمان بن المنذر، وكان المسرح المدرسيُّ في مدينتنا، يُريدُ نصًّا من كتابةِ الطلابِ أنفسهم.
أخذ عَبُّود الدفتر، عفوًا.. “التمثيليةَ” التي لم تُعرَض، ثمَّ عادَ في اليوم التالي، وقد رَسَمَ لوحةَ الغلاف، وعليها أولَ توقيعٍ فنّيٍ له في الزاوية.
سَلَّمتُ الدفترَ/ التمثيليةَ.. لأستاذ اللغة العربيّة “شبِيب” -هكذا كانت كُنيَتُه- فوضَعَها في حقيبتِه الجلديَّة السوداء التي لا تُفَارِقُه، قائلًا:
– سأقرؤها في البيت، غدًا أُعطِيكَ رأيِي.
في اليوم التالي.. رفع الأستاذ دفتري وأشار إلى الغلاف:
– هل هذه رَسمَتُك؟
فأشرتُ إلى عبُّود: – رسمها عبد اللِّي.
أخذ الأستاذ يُشيد بلوحةِ الغلاف وبموهبةِ عبد القادر، حتى ظننتُ بأنه قد نسيَ تمثيليتي، ثمّ التفتَ إليّ:
– كتبتُ تَوصِيةً ليختاروا تمثيليَّتك، وملاحظتينِ بالقلمِ الرصاص، أولهما: أنّكَ أضفتَ على قصَّة النُعمَان حلمًا رآه، ثمَّ كابوسًا في الخاتمة، لا أرى داعيًا لهما، ثمَّ أنكَ أصغرُ من أن تُضيفَ على التراثِ شيئًا.
حاولتُ توضيحَ وجهةِ نظري، لكنَّ الأستاذ “شبيب” حَسَمَ النقاش، كان من جيلٍ يرى أن التراثَ مُقدّسٌ، لا يُمَسّ، وكذا اللغةَ العربيّة.
بعد شهرين، تذكَّر الأستاذ: – هل مّثّلوا مسرحيتَك؟
– جاءتهم نصوصٌ جاهزةٌ من دمشق، مُوَافَقٌ عليها مُسبقًا، ليختاروا منها وحدها، استبعدوا كتاباتنا، مع أنه مسرحٌ مدرسيّ؟!
هزّ الأستاذ شبيب رأسَه، لم يُعَلَّق، فقد اعتقلوا قَبلَهُ الأستاذ “عبد المجيد هُمُّو” لأنه كان يُكثِرُ من التعليق، بل من “التَنقِير” على الحكومةِ طوال دروسِهِ، ما استطاعَ إلى ذلك سبيلًا.
بعد أربعينَ عامًا.. سألني عبُّود:
– ما تزال لوحتي تلكَ..عندَك؟!
– عندما نعود إلى إدلب، سأنبُشُها لك، إذا لم يقصفوا بيتنا.
ابتسم عبد اللّي: – وهل سنعود؟!
– إذا توقفت المُعَارَضاتُ عن اجتِنَابِنَا، وتوقفَ أمراءُ الحربِ عن تكفيرنا، كما لن يتوقفَ النظامُ الأسديُّ عن تخويننا!
هَزَّ عبد القادر عبد اللِّي رأسَهُ، مُتابِعًا رَشفَ كأسِ الشاي الإسطنبولي.
كم من الأوراق البيض، كان علينا أنّ نُحرِّرَها مِن بياضِهَا السَاكنِ، المُستَكِينِ، اللائذِةِ ببياضِهِا، الخائفِةِ من تعَدٌّدِ الألوان والحروف، لتعودَ بنا إلى الوطن، ولو.. كآخرِ نَصٍّ لنا، في بياضِ الكَفَن؟!