“بالنسبة إلى الإنسان الذي لم يعد لديه وطن، تصبح الكتابة مكانًا له؛ ليعيش فيه”.
ثيودور أدورنو
الجوهر هو المقولة الأولى من المقولات العشر الشهيرة لأرسطو، بينما المقولات التسع الباقية تكون بمنزلة أعراض وهي: الكم – الكيف – الإضافة – المكان – الزمان – الوضع – الملكية –الفعل – الانفعال. وفق المعجم الفلسفي يطلق الجوهر عند الفلاسفة على معان، منها الموجود القائم بنفسه حادثًا كان أو قديمًا، ويقابله العرض، ويُطلق كذلك على الذات القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليها، ومنها الماهيّة التي إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، ومنها الموجود الغني عن محلّ يحلّ فيه(1) فالجوهر وفقًا للتقليد الفلسفي الأرسطي ثابت، قائم بذاته، مستقلّ عن غيره، وهذا مناف للبرهان، فالثبات نسبي، والكائن يحتاج إلى غيرهِ وجودًا وتعبيرًا، وهل يمكن تجريد الكائن من أعراضه أو أبعاد وجوده المختلفة وأبسطها بعدي الزمان والمكان؟! نحن هنا أمام منظورٍ تراتبيّ للوجود، مناف للبرهان، يُعلي من شأن المُجرّد في مقابل المحسوس، يُعَبَّر عنه بصيغة “يفتقرُ إلى غيره” ويُعبَّر تقليديًا في الكتابات الفلسفية القديمة عنهُ بصيغة “أشرَف من..” يعكس النظر إلى الكينونة، بوصفها جوهرًا وأعراضًا، تعميمًا لتفكير نمطيّ قائم على الثنائيات، تفكير قائم على المركز والهامش، الأساسي والثانوي، وهو أحد أشكال وقوالب التفكير الممكنة والمتوقّعة، ولكنّه ليس بالضرورة الشكل الأفضل أو الأكثر كفاءة، وهو غالبًا ما يوقعنا في مغالطات وإسقاطات تعكس الحضور المُسبق لهذا النمط، وإنّ المعرفة المُستندة إلى الجوهر، تصف حقيقة ماهية قبلية مستقلة عن الشيء، كما وجد ويوجد وسيوجد.. من دون أن تُلزم نفسها بالبرهان على ذلك، وقد تصنّفها بداهة لا تحتاج إلى برهان، ربّما! لقد تعرّض مفهوم الجوهر عامة، والمقولة الأرسطية بالجوهر لنقد متكرر تاريخيًا، لسنا في صدد التوسع فيه هنا، ولكن من المفيد -هنا- الإشارة إلى أعمال المنطق الرواقي والفلسفات الاسمية واتجاهات الوضعيّة المنطقية، لكنّ النقد الذي سنعرضهُ هنا يستند إلى نظرية المنطق الحيوي. سأثبت مثالين لإيضاح طبيعة العلاقة بين الجوهر والعرض، أحدهما من المحسوسات، والثاني من المعنويات: مثال – التفاحة، فالتفاحة -بالمعنى المفهوماتي والإشاري- هي جوهر من النوع الجزئي؛ استنادًا إلى المنطق الأرسطي، وهي جوهر؛ لأنها تقوم بذاتها، فليس للتفاح ضدّ، ولا تقبل الأكثر والأقل، فلا يوجد تفّاحة أكثر تفاحيّة أو أقل من تفّاحة أخرى مثلًا، واعتمادًا على منطق ثنائية الجوهر والعرض: تتألف التفاحة من (جوهر تفاحي) وأعراض من قبيل: الشكل – اللون – الرائحة – الطعم – المكان – المُلكية.. إلخ وهذه الأعراض مُتَغيِّرة، ولا تتغيَّر التفاحة، بوصفها جوهرًا، بتغيّر الأعراض. التعقيب على المثال: لا توجد تفّاحة بدون أعراض، إذ لا وجود لتفاحة من دون لون ورائحة وطعم وشكل ومكان وزمان.. إلخ، فجوهر التفاح “لا يقوم بذاته – وهو ليس مستقل عن الأعراض، بل ويفتقر إلى غيره.. إلخ” والتفاحة متغيرة، وليست بـ: جوهر ثابت، وليس جوهر التفاحة بأشرف من أعراضها، فأي تغيير في الأعراض سيؤدي لتغيير في التفاحة، فلا يوجد –يقينًا- تفاحة مستقلة عن أبعاد وجودها أي أعراضها، ولا يوجد جوهر ماهوي ثابت لها، والتفاحة تجريد يقوم على حذف واع لأعراض متغيرة، تختلف بين ثمرة وأخرى، ويمكن تفهّمه ليس على سبيل الحقيقة، بل على سبيل المجاز والصلاحيّة، كأن أميز بين البرتقال والتفاح عندما أشتري الفاكهة مثلًا. والتفاحة لا تحافظ على ثباتها أبدًا.. بل هي صيرورة حركية لها أطوار وسياق تشكّل معيّن، ولا وجود لتفاحتين مُتطابقتين، أقله اختلافهما في الزمان والمكان.. إلخ أي أن الجوهر التفاحيّ القائم على الثبات والماهية والتطابق هو افتراض مناف للبرهان، وثنائية (جوهر تفاحي/ أعراض تفاحيّة) عند من ينظرون إليها من منظور التكامل متناقضة مع سياقها نفسه، فهل من مبرِّر لاستمرار توصيفنا لثمرة التفاح بأنها جوهر! هل من مُبرر منطقي للنظر إلى التفاحة بوصفها جوهرًا وأعراضًا؟! الخلاصة؛ إنّ التفاحة كينونة تتشكّل من أبعاد وجودها المختلفة (أعراض) وفق صيغة معيّنة، وبشروط وأسيقة معيّنة. إذا كان من السهولة بمكان نقد مقولة الجوهر والأعراض في المحسوسات، ولكنّ ذلك يبدو أصعب في المعنويات، وهذا ما سوف يدخلنا في إشكاليات ذات طابع أكثر حساسية وتأثيرًا في حياة الناس والمجتمع، فمثلًا ما جوهر الإسلام؟ ما جوهر الله؟ ما جوهر الحياة؟ ما جوهر الوطن، ونحوه.
مثال – الوطن؛ الوطن – بالمعنى المفهوماتي والإشاري – جوهر من النوع الجزئي، استنادًا إلى المنطق الأرسطي، وهو جوهر؛ لأنه يقوم بذاته، فليس للوطن ضدّ، ولا يقبل الوطن الأكثر أو الأقل، فليس ثمّة وطن أكثر وطنيّة أو أقل من وطن آخر. نقد مقولة الوطن الجوهراني: ليس ثمّة جوهر للوطن يقوم بنفسه بمعزل عن أعراض الجغرافيا والتاريخ والسكان والإدارة السياسية والمشاعر الإنسانية.. إلخ؟! وقابليّة الوطن لتوارد الصفات المتضادّة عليه: جميل/ قبيح، وطن حر/ مُحتل.. الخ لا يعني أن لهذا الوطن ماهية ثابتة ليست في موضوع. إذا سلمنا -جدلًا- بأن الوطن جوهر، وبأن الأعراض مساحته كذا، وعدد سكانه كذا، ومواطنيه يتكلمون اللغة الفلانية، وهو تحت الاحتلال أو حر، وهو يُحكَم بنظام جمهوري أو ملكي أو ديمقراطي… إلخ؛ فإنّ هذه الأعراض -بما فيها الأعراض/ الأبعاد النفسية– وطريقة تشكّلها هي -في حقيقة الأم-ر ما يُشكِّلْ (جوهر الوطن). والوطن يزول –زمنيًا- بزوال أعراضه، فمفهومات مثل الوطن الروماني: نسبة إلى الإمبراطورية الرومانية القديمة، زال تاريخيّا بزوال أعراضه، وهكذا كلّ وطن… إلخ؛ فالأوطان يُعاد تشكّلها تاريخيًا من خلال صيرورة حركية احتوائية احتمالية نسبية. لكن ماذا نقول لمن يُضحّي بنفسه في سبيل الوطن؟ وهذا حَدَثْ مُتَكَرِّر في التاريخ البشري؟! أليس الاعتقاد بالوطن والتضحية في سبيله برهان دامغ على كونه جوهرًا! وقد يضيف بعضهم: هو جوهر فريد نفيس؟! إجابة عن هذا التساؤل، يمكن القول إنّ أهمّية مفهوم الوطن والوطنيّة واستمرار صلاحيّات التضحية في سبيل الوطن عبر التاريخ، لا يقتضي الإيمان بجوهرانيّة الوطن، لا بل إن هذه “الاعتقاديَّة الجوهرانيَّة” قد تكون مسؤولة عن مُصَادَرة صلاحيّات ومصالح مفهوم الوطن لصالح شخص أو فئة أو طبقة.. إلخ. لسنا في صدد التشكيك أو إنكار وجود الوطن أو هوية للوطن أو هوية وطنيّة، ولكنّا في صدد إثبات أن الوطن هو صيغة، شكلٌ يتشكّلُ مِنْ وفي الأبعاد المختلفة لوجوده، الجغرافي والتاريخي والديمغرافي والاقتصادي والسياسي والإداري. الوطن ليس جوهرًا ثابتًا أو جوهرًا ميتافيزيقيا، بل هو شكل، طريقة تشكّل لأعراض متغيرة، وفقًا لشكل وصيغ مُتعيّنة، وإذا كان الوطن ليس جوهرًا ميتافيزيقيًا، ولكنّهُ يتحوّى بُعدًا عقائديًا ميتافيزيقيًا لا يمكن إنكاره، وهو متغير بدوره، يختلف ما بين شخص وآخر.. ما بين وطن وآخر. إنّ الوطن والهويّة الوطنية، بالاستناد إلى نظرية المنطق الحيوي(2) ما هي إلا شكل حركي احتمالي احتوائي نسبي، يعرض لمصالح وصلاحيات أكثر أو أقل حيويّة، ربطا بسياق وجوده، والتزام المصالح المعروضة بأولويات الحياة والعدل والحرية.
الهوامش
1 – المعجم الفلسفي ، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982، ج1، مادة الجوهر، ص 424-227.
2 – للتوسع راجع كتاب (المنطق الحيوي: عقل العقل)، أطروحة دكتوراه، رائق النقري، منشور في باريس 1987.
تعليق واحد