حاز الفيلم الوثائقي المُنتج من قناة الأفلام “نيتفلكس”، والممول من رجل أعمال من أصل سوري، على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان الأكاديمية الأميركية للسينما “الأوسكار”، وهو يحكي جانبًا من عمليات عناصر الدفاع المدني في المناطق غير الخاضعة لسلطة النظام السوري، ويُطلق عليهم “القبعات البيض”. وكانت المجموعة المدنية نفسها قد رُشِّحَت للحصول على جائزة نوبل للسلام العام الماضي، ولم تحالفها الحسابات السياسية الدقيقة التي تُحدّد مسار وتوجهات تلك الجائزة التي مُنحت إلى رئيس كولومبيا الذي وقّع مع المجموعة المتمردة “الفارك” اتفاقية سلام تاريخية.
فرح كثيرون بجائزة الأوسكار التي حصل عليها الفيلم، ليس فنيًا حتمًا، بل بمعانيها وأبعادها السياسية والإنسانية والتضامنية؛ فهؤلاء “الجنود” المجهولون الذين اختاروا الانخراط في إغاثة ضحايا المقتلة السورية، حيثما استطاعوا، قدّموا كثيرًا من الشهداء ومن المصابين على قربان العمل الإنساني التطوعي الجديدة ممارسته في سورية؛ فقد عانت الثقافة المدنية السورية طوال عقود من التصحير، وتجفيف منابع المبادرة، ومن الفقر التطوعي، وغياب مفهوم المسؤولية الاجتماعية، واحتكار المساحة العامة التي تملؤها -في الديمقراطيات أو أشباهها- منظمات المجتمع المدني.
وفي مجال “الدفاع المدني” حصرًا، يكاد السوريون لا يذكرون عملًا مهمًا، أو مؤثّرًا، أو ذا وقع إنساني لمجموعات الدفاع المدني الرسمية التي كانت منتشرة في كل المحافظات ما قبل 2011، إلا حدثًا تقنيًا محدودًا يمكن لكشافة من الأطفال أن ينفّذوه؛ فقد بادر “رجال” الدفاع المدني الرسمي السوري، في أثناء حرب تشرين/ أكتوبر 1973، وإبّان تنفيذ طيران العدو الإسرائيلي غاراته على المدن، بطلاء نوافذ البيوت وأضواء السيارات باللون الأزرق؛ لتخفيف بريقها، بما لا يسمح للطيران المعادي، غير المتطور حاسوبيًا حينذاك، باكتشاف أماكن سكن وتحرك المدنيين. لا أحد يستطيع أن يجزم بفاعلية هذا الإجراء الذي صار جزءًا من التاريخ، ولكن -بالتأكيد- يمكن لكل السوريين أن يجزموا بأنهم لم يلمسوا دورًا لهذا الجهاز “الرسمي” خارج هذه السردية شبه المسلية.
وقد تميّزت أجهزة الدفاع المدني “الرسمي”، قبل 2011، بما تميّزت به جميع مؤسسات ودوائر ومحميات المنظومة السائدة، من فساد ومحسوبيات وسوء إدارة؛ فكثيرٌ من السوريين يذكر أن اللجوء إلى خدمات هذه الأجهزة كان يحتاج إلى مساومات مادية وعينية، تجعل من المحمود تجنبه، والسعي إلى طرائق ملتوية للحصول على الخدمات الأساسية المتعلقة نظريًا بمثل هذه الأجهزة كونيًا. وحتى سيارات الإسعاف المرتبطة بالدفاع المدني، أو بالمنظومة الإسعافية العامة، فقد كانت تحركاتها تحتاج إلى تحريك الأموال النقدية، وكأنها خدمات سيارات الأجرة، لا أكثر ولا أقل، بمعزل عن خطورة وفداحة الحال التي تستدعي التواصل معها، وطلب خدماتها. يُضاف إلى ذلك، قيام هذه الأجهزة برفد “الأمنوقراطية” السائدة بما أُتيح من معلومات تحصل عليها مجموعاتها في إطار تحركاتها “الإنقاذية” المحدودة جدًا. بالتأكيد، لا يمكن تعميم هذا الوصف، وتقييم كامل أفرادها، فلكل قاعدة استثناءات. في المقابل، تبقى القاعدة الموصوفة هي المهيمنة على الحيوات، وعلى الممارسات التي عانى منها السوريون من أجهزة الخدمة العامة كافة.
مع عودة المجتمع المدني السوري إلى الحياة، بسلبياته وإيجابياته، إثر كسر حاجز الخوف سنة 2011، وبعد أن طالت سنون ترويضه وتفقيره وتحجيمه وحصره في الخيري، المرتبط دينيًا والمُنفّر مواطنيًا، برز عناصر القبعات البيض -الدفاع المدني- بوصفهم أقوى التعبيرات عن التزام إنساني لمجموعة بشرية غير متجانسة المنبت والتكوين، وكانت المبادرة محلية في المطلق، دون أي دعمٍ ملموس إلا في ما ندر، وسرعان ما حظيت هذه التجربة بدعم دولي من جهات رسمية ومدنية، في إطار التدريب والتجهيز، وصارت إنجازات عناصر القبعات البيض من معالم النضال اليومي للإنسان السوري في وجه المقتلة التي تضافر فيها “جهد” النظام وحلفاؤه المُعلنين أو المُغفلين، الدولاتيين أو المرتزقين، إضافة إلى “جهد” الإرهابيين الذين تدفقوا إلى سورية من كل حدب وصوب، مستفيدين من سياسة “الأجواء والحدود المفتوحة” التي مارسها الجيران، ومن حسابات القوى الإقليمية التي هدّدت استقرارها المصطنع ثورة شعبية سلمية، كان من اللازم ومن الضروري تحولها إلى مقتلة، تلتهم البشر والحجر.
حصل -إذن- الفيلم الذي يصف عملهم بطريقة مؤثرة على أهم جائزة سينمائية في العالم. وبالتأكيد، لم يلعب الجانب الفني الدور الأساس في اختيار لجنة التحكيم، بقدر ما لعب العامل الإنساني/ السياسي دورًا مهمًا في توجيه هذا الاختيار، إضافة إلى وقوع المشاركة هذه السنة في إطار توجّه “التزامي” لصانعي الفن السابع في مواجهة مصائب سياسية، تنهال على هذه الكون، ولا تنحصر بالمقتلة السورية فحسب، وإنما -أيضًا- يمكن عدّ انتخاب دونالد ترامب على رأس الاتحاد الأميركي من أكثر مؤشراتها سلبية.
في المقابل، شوّه اليمين المتطرف حليف اليسار المتطرف في الشأن السوري، إنجازات القبعات البيض بشن حملة إعلامية، ممولة روسيًا وإيرانيًا؛ لإظهارهم وكأنهم مسلحو تنظيمات راديكالية، يتنكرون بزي العمل الإنساني؛ تلك المجموعات المتطرفة تسعى، من خلال منابر إعلامية روسية، أو مواقع مؤامراتية تنتشر كالنار في الهشيم في الافتراضي من الفضاء، إلى التشكيك الدائم والمعتمد على الكذب المستمر، وعلى سرد “وقائع” متخيلة.
في الساعات الأخيرة، تقاسم بعض السوريين شريطًا مصورًا يُظهر مداخلة لنائبة فرنسية، عدّت -من خلاله- استقبال فرنسا للقبعات البيض منذ عدة أشهر دعمًا للإرهاب؛ فرح هؤلاء السوريون بما تهرف به هذه السيدة، وانطلاقًا من التحليل النفسي البدائي الذي لا يحتاج إلا لكتب تأسيسية، يمكن عدّ هذا “الفرح” المضمر، نوعًا من تبرئة الذات المهمّشة أخلاقيًا، ولا تتمكن من البوح بالإعجاب الدفين بعمل هؤلاء الأبطال؛ إنها محاولة هروب من واجبٍ أخلاقي بتسويغات غير أخلاقية؛ لإراحة ضمير مستكن منذ عقود، ضميرٌ مُحاط بأسلاك شائكة، لا يجرؤ صاحبه أن ينظر إلى المرآة، مصدقًا نفسه عندما يتحدث عن القبعات البيض بهذه السلبية المجانية؛ لأنه سيشعر -حتمًا- بالقرف مما ستعكسه له المرآة. حينما يتنعّم قليلًا، ستسقط قبعة الإخفاء التي امتطاها الضمير المتجمّد أمام نصاعة القبعات البيض.