مقالات الرأي

الثورة في مكان آخر

من المؤكد أن الثورة التي بدأت منتصف آذار/ مارس عام 2011، أو في الثامن عشر منه، دون أن ندخل في تفاصيل الخلاف المعروفة حول التاريخ الفعلي لبدء الثورة، هي غير ما يحدث الآن على الأرض السورية، بل يمكن القول إن كثيرين ممن كانوا “قادة” ثوريين في تلك الأيام والأسابيع الأولى، باتوا في يومنا هذا جزءًا من منظومة متكاملة لدفن الثورة، وكتابة نعي لائق بها، لا بسبب قيمتها بوصفها ثورة عظيمة، وإنما بسبب التضحيات الهائلة التي قدمها شعبنا في سبيل نيل حريته التي تأخرت كثيرًا، على الرغم من أن الواقع يقول إن كثيرًا من السوريين يعيشون الآن حياة حرة في منافيهم ومواطن لجوئهم التي وصلوا إليها، وهم -ولا أستثني نفسي من ذلك- باتوا قادرين على الكتابة والتحدث بحرية دون أن يخافوا من انقضاض رجل الأمن الذي ظل ساكنًا في عقولنا طوال خمسة عقود طويلة، وقد أكسبت تلك الحرية الجزئية السوريين المنفيين والمهجرين نفسًا جديدًا يضمن لهم الاستمرار في الدعوة الدائمة لمواصلة الثورة، وإلى التمسك بالأهداف التي اندلعت من أجلها، وعدم الاستجابة لنداءات الخذلان ودعوات التطبيع مع النظام التي بتنا نسمعها بين الحين والآخر، وتدعو -صراحة ودون مواربة- إلى طي صفحة الثورة والعودة إلى “حضن الوطن”، وهذا الكلام يعني إعادة التطبيع مع النظام، وكأن شيئًا لم يكن، كما فعل عدد ممن كانوا -حتى وقت قريب- يُحسبون على صفوف المعارضة، وكل ذلك بحجة أن العالم كله يقف ضد الثورة، ولن يقف معها، ولهذا؛ فإنه محكوم عليها بالفشل، وكأن الثورة أصلًا كانت خيارًا عالميًا، ولم تكن خيارًا واختيارًا سوريًا 100 بالمئة، بل كأن أطفال درعا حين كتبوا ما كتبوه على جدران مدرستهم كانوا يتلقون أوامر من منظمة المؤامرة العالمية، و كأن أولئك بكلامهم يريدون تأكيد أكاذيب النظام بأن الثورة كانت مؤامرة كونية، تستهدف النيل من صمود سورية ومناعتها، وهذان الأمران -تحديدًا- كانا من أول مكتسبات الثورة التي استطاعت، وبعد مرور أسابيع فقط على اندلاعها، أن تسقط أقنعة الصمود والممانعة، وأن تعري المشروعات التي كانت تحاك في الظلام لمستقبل سورية، ويشكل نظام دمشق أهم ركائزها، إذ كان مقررًا لسورية أن تصبح لبنان جديدًا، يقوده المرشد الإيراني من مدينة “قم”، ويتحكم بمفاصله، وما فعلته الثورة أنها رفعت الغطاء عما كان يدور في الخفاء، وأظهرت للسوريين الحقيقة عارية، فإيران عدو استطاع التسلل؛ مستخدمًا “فلسطين” ليدخل بيوت السوريين، وكان سيحتل مدنهم شيئًا فشيئًا عبر “سياحة دينية”، تعبث بالنسيج الاجتماعي وتمزق الديمغرافية السورية، ما يحدث الآن من احتلال المدن وإفراغها من ساكنيها هو المشروع نفسه لكننا صرنا قادرين على القول إن إيران قوات احتلال، ويجب محاربتها، قد تصل الرسالة، وربما وصلت، إلى من تبقى من السوريين الذين ما زالوا خاضعين لسلطة العصابة الحاكمة، وربما ينتفضون ضد هذا الاحتلال البغيض عاجلًا أم آجلًا.

استطاعت الثورة -أيضًا- أن تُمزّق حجب بعض تيارات الإسلام السياسي التي تحمل تلك الأكاذيب نفسها التي يحملها نظام عصابة دمشق، فهي التي تسعى لاستعادة أمجاد الأمة الإسلامية، وتريد أن تحول بلادنا إلى منطلق لنشر نوع جديد من الإسلام، نوع ما أنزل الله به من سلطان، يقوم على الكراهية والتعصب، وعلى تحويل المجتمع إلى كومة من المحرمات، وتلك التيارات تحمل مشروعًا استبداديًا لا يختلف من حيث بنيته وطريقة تنفيذه عن النظام الاستبدادي الديكتاتوري، وقد شرعت فعلًا بتطبيق مشروعها في بعض المناطق التي سيطرت عليها، وكانت سببًا إضافيًا دفع الناس للنزوح والهجرة، وقد شهد عدد من المناطق حالات تمرد؛ لكنها قمعت بالنار والحديد، ونحن هنا لا نتحدث عن تنظيم داعش، لكن عن تنظيمات أقل تطرفًا وتشددًا منه، وجميعها تقريبًا تدعي أنها تقاتل النظام “النصيري”، بحسب لغتها المنفرة، وتريد إعلاء راية “السنة” عاليًا، ومجرد شعاراتها هذه كفيلة بتمزيق بنية المجتمع السوري الذي، وإن كان المسلمون السنة يشكلون أغلبيته، لكنه بطبيعة الحال يضم طوائف أخرى، كان عدد من أبنائها مشاركين في الثورة منذ بداياتها، وقد دخل الرعب في قلوبهم عندما سمعوا مثل هذا الكلام، صحيح أنهم لم يتخلوا عن حلم الثورة، لكنهم بالمقابل ليسوا مستعدين للمشاركة في “ثورة” تدعو لإقامة “دولة إسلامية”، يريد دعاتها إلغاء الهوية الوطنية والتخلي عن سورية الدولة لتصير بعد ذلك جزءًا من كيان هلامي غير موجود إلا في مخيلة الحالمين بها، دولة “قمعية” لا تمنح مواطنيها مبدأ المساواة، فيدفع غير المسلمين فيها الجزية، وليس لهم أي حقوق سياسية أو ثقافية، وكله بالاستناد إلى نصوص “شرعية” جرى اصطفاؤها لتلائم ذلك المشروع وغاياته.

حين نقول ونحن نجتاز السنة السادسة، ونعبر إلى سنة سابعة من عمر الثورة، إنها ثورة مستمرة، فلأنها مستمرة فعلًا وليس قولًا، ثمة أطفال باتت الثورة حلمهم، وثمة جيل بأكمله صار يؤمن أن نجاح الثورة هو رهانه الوحيد لأجل المستقبل، هاتان فكرتان تغيبان عن ذهن النظام المستبد، أو الأنظمة المستبدة الماثلة والحاكمة على الأرض السورية، فهي وإن بدا أن كل شيء طوع بنانها الآن، إلا أنها تدرك أنها لن تعرف الاستقرار على الإطلاق، فالثورة رمال متحركة ستبتلع هذه الكيانات مهما بدت من الخارج قوية متماسكة، نراهن على الثورة ونؤمن أنها هناك في مكان آخر، في قلب وعقل كل سوري يحلم بالحرية… وما أكثرهم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق