خلال مشواري السياسي، عرفت أنواعًا كثيرة من المصطلحات الجديدة، بعضها كان يستمر فترة طويلة ثم يذوي، وبعضها يمر مثل موجة سريعة ويختفي.
لزمن ما، كنّا نبحث عن تجديد الخطاب التقليدي للبعث، وغيره، نحاول إدخال تعبيرات ومضامين مختلفة، كانت متأثرة -إلى حد كبير- بالمفردات الماركسية عمومًا، واللينينية خصوصًا، فأكثرنا من النقاط، والفواصل، وإشارات التعجب والاستفهام، وأدخلنا كثير المتداول من التعبيرات: البروليتاريا، والعسكرتاريا، والأنتجيليسيا، والأوليفارشية، والفاشية، وأقحمنا الأيديولوجيا حيث يجب أو لا يجب، وكثير من المفردات التي أرادت أن تقول إننا ننتمي إلى فكر معيّن، وأننا نستوعبه، وننشئ فيه ما يعرف بمحاولات “تعريب الماركسية”، أو تكييفها وفق تنظيراتنا عن “نمط الإنتاج الآسيوي”، وموقع القومية، والأمة العربية، وقد أضفنا المصطلح إلى حركات التحرر الوطني، فأقحمنا القومي فيها، رغم أنف السائد، وتحديدات ستالين القدسية لمحددات الأمة، وهل هي موجودة، أم غائبة، أم في طور التكوين…
راجت مصطلحات باتت تعبّر عن ذلك الاتجاه بوصفه انتماء، وكأنها جديدة، واشتقاقية.. واستقرت جمل “على قاعدة”: وفي الحقيقة، والواقع، وبدقة.. زمنًا… ثم بتنا نعرفُ المربّع الأول، والأخير، وتدوير الزوايا، ولفّها، والسياسة الناعمة، والخشنة، والتصفير… وأخيرًا المنصّات.. بل وحتى “البسطات” التي يطيب لأحد الأصدقاء استخدامها بكثرة، فضلًا عن: دعيني أكمل، ودعيني أقول، ودعيني أعبّر.. في حين لا أحد يمنع من التعبير والإكمال… فالمنصّات تعني في العربية: كرسيُّ مرتفعٌ أَو سريرٌ يُعَدُّ للخطيب ليخطب، أَو للعروس لِتُجْلَى، وقد يزيَّنُ بثيابٍ وفرش… فأين هذا المصطلح من مضمونه؟ وما حقيقة وواقعية المنصات في زحمة الحالة السورية وعجقة التشكيلات؟
لا شكّ في أن وضع المعارضة التقليدية الأعجز عن قيادة الثورة، وانفجار خزين السوري المشحون منذ عقود وقرون متشظيًا، والاندلاق، والانهمار، و”الجلوَعة”، و”الفَجعنة”، وكثير من المظاهر التي تكاد تكون صناعة سورية خالصة، وتعقيد الوضع السوري، وإطالة أمد الانتصار، وإنهاء نظام الاستبداد.. فتحت المجال لقيام مئات، بل وأكثر، من التشكيلات السياسية، والتيارات، والفعاليات، والمسميّات.. لدرجة يصعب على أكبر مهتم ومتابع أن يحفظ تلك الأسماء، ويعرف عددها: اسمًا، ووجودًا.. وحتى تمايزاتها بالخلفية، والخطاب، والبرامج والمرجعيات، أو من يبقى فيها ومنها، وحجمها الحقيقي، بواقع فشل الثورة في إيجاد قيادة من صلبها نتيجة تفاعل عوامل متشابكة، ثم العَسكرة وطغيانها، فحالات التشتت، والشعور بعجز الهيئات القائمة عن إنجاز المهمات الكثيرة المناطة بالثورة، أو التعبير الحيّ عن جوهرها، وتطور مساراتها، وفهم منعرجاتها.
حين قام المجلس الوطني، بدا أنه يمثل طيفًا واسعًا ومهمًا من القوى والاتجاهات السياسية القديمة والناشئة، ثم توسعته بما يعرف بممثلي التنسيقيات والحراك الثوري، وغرقه في توسعة فضفاضة دفعت إليها عددًا من الضغوط، وترافقت مع بدء “أفول” نجم المجلس، واستبداله بالائتلاف.
في تموز/ يوليو 2012 وبرعاية الجامعة العربية، عُقد مؤتمر المعارضة بالقاهرة. كان المقرر ألا يتجاوز العدد المئة، ثم زيد إلى 110، فـ 120، ووصل، بفعل ضغوط وتدخلات كثيرين إلى 250، بينما بلغ الحضور نحو 360، وعلى الرغم من أنه شمل أوسع تمثيل لقوى المعارضة وهيئات الثورة، والمستقلين إلا أن كثيرين راحوا يشككون بشرعيته، وغياب قوى أخرى فاعلة، وشخصيات لها وزنها، والكثير كان يعد نفسه الأجدى بالحضور، وأن غيابه نقص كبير لا يمكن تعويضه.
يعرف الجميع أن وقوع المؤتمر بين رحى عقليتين مختلفتين: عقلية من يرى في عقده، وتشكيل لجنة متابعة محاولة لنسف وتهديم المجلس الوطني، ومؤامرة محبوكة، وأخرى تتعامل بعقلية الضرّة التي تبحث عن استبدال المجلس بصيغة جديدة، هي “لجنة المتابعة” التي يمكن أن تتطور إلى شكل بديل، وأن تحميل المجلس الوطني مسؤولية عدم الاستجابة لتشكيل لجنة متابعة كان بمنزلة الرصاصة القاتلة، ومنح ما يعرف بـ “المبادرة الوطنية” الضوء الأخضر، فقام الائتلاف برعاية قطرية ودولية بارزتين، وشمل، نظريًا، أوسع تمثيل للمعارضة التقليدية، والناهضة. إلا أن رفض “هيئة التنسيق” وبعض الشخصيات المحسوبة عليها، أو التي توجد في الداخل، المشاركة في الائتلاف أفسح المجال لاستمرار الشرخ، والحرب المعلنة، وغير المعلنة، وإلى محاولات “الآخرين” إثبات وجودهم، وأنهم القوة الفعلية التي تعبّر عن الداخل، واتهام الائتلاف بأنه يمثل الخارج، والإرادات الإقليمية والدولية وتأثيرها، أو اللجوء إليها؛ للضغط والفرض ومنح شيء من الشرعية.. فجاءت مشروعات المنصّات محاولة لإثبات الذات والوجود، وتكريس حال التشتت والانقسام.. على الرغم من أن لقاءات مهمة، واتفاقات تمّت بين الائتلاف وهيئة التنسيق وبعض التشكيلات الأخرى، كتنظيم بناء الدولة، وعشرات منظمات المجتمع المدني، والأهلي، وتشكيلات ناهضة ترغب المشاركة في الائتلاف، ولم تجد لها مكانًا، فضلًا عن الاتفاق مع المجلس الوطني الكردي، والمجلس التركماني السوري وإسهامهما في الائتلاف.
في القاهرة، عقد عدد من التشكيلات والشخصيات لقاء أرادوا أن يكون موازيًا للائتلاف، أو منافسًا له، وروسيا عملت بكل ثقلها لتشكيل منصة من شخصيات قريبة منها، وسقفها يبدو متدنيًا عن سقف الائتلاف، في ما يخص الموقف من رأس النظام، ومن جوهر العملية الانتقالية، وشكل الصراع، وغير ذلك، ثم رعت روسيا قيام “منصة حميميم”، وأخرى في كازاخستان، والعمل على إقحامهم جزءًا من المعارضة، ومن المفاوضات التي استفرد فيها الائتلاف، ثم الهيئة العليا للمفاوضات، فالصراع الحالي لتوسيع الوفد وإشراك عدد من “منصتي” القاهرة وموسكو.
حين عقد مؤتمر الرياض، وشاركت فيه “هيئة التنسيق”، وبعض الشخصيات المحسوبة على “منصة القاهرة”، وجرى التوقيع على البيان الصادر عن المؤتمر، بدا أن الهيئة العليا بتركيبها، ومشاركة الفصائل العسكرية بقوة فيها، هي الممثل الأوسع للمعارضة، والأقدر على تشكيل وفد المعارضة، وقيادة عملية المفاوضات، لكن ذلك لم يحصل تمامًا، إذ حرصت بعض الإرادات الدولية، خاصة روسيا وإيران، على إقحام أعداد أخرى خارج الهيئة ومحاولة ضمّها إلى الوفد الرسمي، وحين لم يحدث ذلك دعا المبعوث الدولي أعدادًا كبيرة من تلك المنصات إلى جنيف، بشكل غير رسمي، ليكونوا على تواصل مباشر معه، وعلى علم بكل المجريات والتفاصيل.
الحقيقة التي يجب قولها هنا، هي أن القليل من الأسماء التي ظلت خارج الهيئة العليا، خاصة من منصة القاهرة، وهم بضع شخصيات ليست بعيدة عن سقف الهيئة العليا وبيان الرياض، كان مطروحًا من أشهر طويلة وعلى أن تبادر الهيئة العليا بضمّهم إليها من منصة القاهرة، وموسكو، شرط القبول ببيان الرياض قاسمًا مشتركًا للجميع، لكن أوضاعًا متداخلة حالت دون ذلك، لتصبح قصة المنصات إحدى أوراق الضغط التي تمسك بها روسيا، والاستناد إلى تفسير القرار الأممي 2254، وتريد أن تذهب بها مسافة أبعد من قضية المشاركة في الهيئة العليا، أو في وفد واحد إلى التشكيك بصدقية تمثيل الهيئة العليا ومشروعيتها في تشكيل وفد المفاوضات، والعمل على تكريس حكاية تشتت المعارضة وعدم توحّدها، في حين يبقى السؤال المشروع مطروحًا عن حقيقة تمثيل شخصيات تلك المنصات للثورة، وعلى الأرض، وهل هم قوى فعلية لها حيثيات واضحة، أو وجود على الأرض؟… (باستثناء حالة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي التي لها خصوصيتها).
المسألة في جوهرها ترتبط بمحاولة خلط الأوراق في الثوابت التي تجتمع عليها المعارضة والمتعلقة بالمرحلة الانتقالية، والموقف من رأس النظام وكبار رموزه، إذ تلحّ المعارضة على الالتزام ببيان جنيف 1 القاضي بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، والشروع في الانتقال إلى نظام سياسي تعددي، ينهي نظام الأحادية والاستبداد والفئوية، ولا يكون للمجرم الأسد دور فيها، بينما يرى بعض المحسوبين على المنصات الأخرى شيئًا آخر، وهناك من يعلن صراحة رفضه لتشكيل تلك الهيئة، أو الاقتراب من مصير الأسد. أي استمرار محتوى النظام بصيغة أخرى، ومنح رأس النظام مشروعية البقاء، والترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وكأنه لم يفعل شيئًا، وكأنه ليس مسؤولًا رئيسًا عن المقتلة السورية، وهذا الدمار الشامل وتعريض البلاد لكل الأخطار.
مع ذلك فإن تفهم وفد الهيئة العليا لهذه الوضعية، ومحاولات اللعب بها، دفعته لفتح حوارات إيجابية مع بعض الرموز المحسوبة على منصة القاهرة، والوصول إلى صيغة ما من التفاهم، بينما يصعب الاتفاق مع شخصيات محسوبة على منصة موسكو؛ نظرًا إلى المسافة الكبيرة في المواقف بينها وبين وفد الهيئة العليا.