يا لبراعة الإعلام السوري! يا لسرعة كاميراته ومراسليه الصاروخية في الانتقال من محافظة إلى محافظة؛ لسؤال أهالي الشهداء عن رأيهم في مؤتمر أستانا! من اللاذقية إلى طرطوس إلى جبلة إلى دمشق، وإلى محافظات أخرى، بثت القناة الإخبارية السورية مقابلات مع عشرات النساء والرجال المفجوعين باستشهاد ابن أو زوج، وغالبا مقتل عدة أفراد من عائلة واحدة!
المذهل الذي يُشعرك بأنك تحضر مسرح اللامعقول، أن جميع ذوي القتلى في المدن والمحافظات السورية المختلفة، أجابوا الجواب نفسه حول رأيهم في مؤتمر أستانا، ولم يشذّ أحد منهم برأي مختلف، جميعهم قالوا: نحن نعتز ونفتخر بـ “استشهاد” -بحسب تعبيرهم- أولادنا (أو أزواجنا) في سبيل سورية، ومستعدين للسلام والمسامحة؛ من أجل عودة الأمان والاستقرار في سورية، كما كنا سابقًا”. (ولم يحدد أي منهم ما المقصود بـ “سابقًا”). لا أحد تجرأ وقال كلمة ثورة، أو أزمة أو مؤامرة. هكذا فجأة، وكمن مسّهم الجنّ أو السحر، نسي ذوو القتلى فلذات أكبادهم الذين قتلوا عبثًا، في حرب “لم يختاروها”، وتحولوا إلى مخلوقات افتراضية، يحدث بينها تخاطر غريب وعجيب، والجميع يصبح وادعًا، مسالمًا متسامحًا، وكأنه لم يفقد حبيبًا ولا إنسانًا عزيزًا، كأنه يترحم على عصفور أو دجاجة!
ترى من صاحب الفكرة العبقرية في برنامج كهذا! سبحان الله لم يبد الغضب على أحد! ولم تذرف أم ثكلى دمعة على ابنها، ولم تذرف إحدى المنكوبات التي قُتل اثنان من إخوتها وزوجها أي دمعة، ولم نشعر بغصة في حلق أي منهم! الجميع كالمنوم مغناطيسيًا، هادئًا هدوء من يفيق لتوه من التخدير، و”يبرطم” بكلام لا يفقه منه شيئًا.
أي احتقار واستخفاف بالسوريين وبذوي القتلى تحديدًا! أي تشويه وتزوير للواقع الدامي والموت اليومي والألم حتى حدود الجنون! ولماذا تلك السرعة الصاروخية في سؤال ذوي القتلى عن آرائهم في مؤتمر أستانا؟ وهل اتسع الوقت لمعدي البرنامج كي يجولوا ويصولوا، ولا ينتظروا على الحواجز، فيقابلون حشدًا من ذوي القتلى؟ أم أن البرنامج قد صُور وأُعدّ قبل بدء مؤتمر أستانا وهو المعقول والمتوقع، أظن -كما يظن الملايين من السوريين- أن تلك الحلقة، وجميع تلك المقابلات، ورأيهم في مؤتمر أستانا قد صُور منذ أيام؟ ولم لا؟ ألم يعودنا إعلام النظام على عبارات من نوع: “سورية الله حاميها”، و”ابتسم أنت في حلب الشهباء”، فيما الطيران ينهال قصفًا على أحياء حلب وأجساد الأطفال مغطاة بالركام والغبار، والمسعفون ينتشلونهم من تحت الأنقاض؟ كيف يمكن أن يصل انعدام الإحساس والاستخفاف بألم السوريين وعقولهم إلى هذه الدرجة؟ إلى ابتكار برنامج يفوق مسرح اللامعقول، ويفتقر إلى الحد الأدنى من الصدقية والنزاهة والمنطق والعقل.
أي مهزلة هذه، وقد تحولت سورية إلى مقبرة جماعية لأولادها، وباتت جميع المناسبات من عيد الأم إلى الأعياد الدينية تقام في المقابر، والمحظوظ من يستلم جثة ابنه! فالامتياز الأكبر في سورية أن يستلم الآباء جثث أبنائهم، أو قطعة من جثتهم! كم من سورية وسوري قُتلوا في معتقلات الاستخبارات تحت التعذيب! لماذا لم يشمل البرنامج الوقح هؤلاء المنكوبين الذين قُتل أولادهم تحت التعذيب في أقبية المخابرات، ويسألونهم عن رأيهم في مؤتمر أستانا؟
فعلًا الإعلام السوري يُشعرك أنك تمشي على رأسك. أو أنك؛ كي تعيش في هذا الوطن، يجب أن تبتلع لسانك أو تخثر عقلك. يا للعار!