“كانت دكاني ممتلئة بأنواع البهارات والمكسرات المختلفة، من الكاجو والجوز إلى اللوز”. يقول الكهل الخمسيني أبو غسان، ابن مدينة داريا مستذكرًا أيامه الخوالي.
يروي أبو غسان لـ(جيرون)، وهو يجلس في دكان صغيرة في مدينة النيرب من ريف إدلب، عن رحلته الطويلة المًرة التي أبعدته عن وطنه الصغير داريا.
“بعد ويلات الحصار التي عشناها في داريا… اضطررنا للخروج؛ حفاظًا على كرامتنا، لقد دمر قصف النظام دكاني وبيتي ولم يُبق لنا شيئًا”.
خرج أبو غسان وعائلته المكونة من خمسة أشخاص، منذ أشهر، ضمن اتفاق رعته الأمم المتحدة، وأُجبر فيه مقاتلو داريا على مغادرتها بعد صمودهم في المدينة لسنوات في وجه قوات الأسد.
تعيش عائلة أبو غسان في بيت قدّمه لهم مجانًا أهالي إدلب الطيبين، وجرى تجهيزه بكل مستلزمات الحياة.
لم يستطع أبو غسان إخفاء حنينه إلى موطنه الذي كان يظهر في بريق عينيه، كلما ذكر اسم “داريا”، وهو يحكي عن طيبة أهالي إدلب ومعاملتهم الحسنة.
تحولت مدينة إدلب في الآونة الأخيرة إلى قِبلة للمئات من قوات المعارضة وعوائلهم الذين هجّرهم النظام قسرًا من بلدات ريف دمشق، كداريا والمعضمية وقدسيا، ممن رفضوا البقاء تحت علم النظام.
وبحسب إحصاءات ناشطين، وثقوا رحلات التهجير القسري التي نفذها النظام ضد سكان ريف دمشق، فقد وصل إلى محافظة إدلب أخيرًا، 2100 مبعد من المعضمية، و1287 مبعدًا من قدسيا والهامة، و750 من داريا، و186 عائلة هُجّرت من الزبداني ومضايا.
استطاع الأستاذ أبو خليل، 36 عامًا، التغلب على ألم النزوح والمعاناة، والسير قدمًا بالحلم الذي طالما راوده، وسعى لتحقيقه في سنوات داريا العجاف، ولكنه لم يكتمل. وعندما حزم أبو خليل، حقائبه، وهمّ بالرحيل من داريا، حمل معه مدرسته “اقرأ وارقَ” وأعاد إقامتها في مخيمات أطمة في ريف إدلب.
وذكر أبو خليل أنه “لا بد للحياة من أن تستمر…. وأهم شيء هو العلم؛ لأننا خسرنا كل شيء، فلا بد أن نحافظ على عقولنا”.
وقد جهّز أبو خليل، بمساعدة من أهالي بلدة أطمة، المدرسة، فاشترى الأثاث اللازم. و”تستوعب المدرسة الأطفال من عمر 6 إلى 12 سنة، ويبلغ عدد تلاميذها حاليًا نحو المئة”.
صعوبات كبيرة تواجه أبو خليل، أبرزها السكن، فهو ما يزال يعيش في المخيم برفقة زوجته؛ منتظرًا مولوده الجديد.
تعاني مدرسة أبو خليل من صعوبة تأمين مصروفاتها، وتقتصر على مساعدات الأهالي، وبعض المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات لسكان المخيم.
وقد امتلك أبو خليل الإرادة الكبيرة؛ لتحقيق هدفه في تعليم آلاف الأطفال، وكان هدفه من وراء “اقرأ وارقَ” التأكيد على “أهمية العلم والقراءة وسيلةً لرفع قيمة الإنسان”.
وتعدّ مدينة العنب (داريا) من أولى المدن التي خرجت ضد النظام السوري، وتعرضت في إثرها لحملات عسكرية شرسة، وشهدت مجزرة من أكبر المجازر في تاريخ الثورة السورية؛ إذ نفذت قوات الأسد في أواخر عام 2012 إعدامات ميدانية بحق 700 شخص.
بعد حملة النظام الهمجية على المدينة وتدميرها بأنواع مختلفة من الأسلحة، قضى اتفاق، رعته الأمم المتحدة، بإخراج مقاتليها وعوائلها إلى ريف إدلب.
داريا اليوم هي اليوم حطام مدينة، وأكوام من الردم والحجارة، بعد أن دمرتها آلاف البراميل المتفجرة.
أطفال داريا في مدارس إدلب
منذ وصولها، وعائلتها إلى مدينة إدلب تواظب غدير، البالغة من العمر عشرة أعوام، على مدرستها، “مسرورة جدًا بالأصدقاء الجدد من أبناء إدلب”.
وأردفت الأم التي تسكن في منزل من غرفتين مجهزتين بكل ما يلزم البيت، “استدركت المعلمة الدروس التي فاتت ابنتي”. قُدّم البيت لأسرة غدير مجانًا، ووفرت المنظمات الإغاثية حاجات العائلة جميعها.
عشرات من أطفال مدينة داريا يدرسون اليوم في مدراس إدلب. “لم يختلف شيء على ابنتي… فهي تكمل من حيث توقفت”. أكدت أم غدير.
تبدو عوائل داريا التي زارتها (جيرون) مرتاحة، نوعًا ما، ومتأقلمة مع الحياة الجديدة، فقد تخلصوا من “هموم البحث عن لقمة العيش” التي كانت تطاردنا أيام الحصار الذي فرضه النظام علينا بكل وحشية”. على حد قول بعضهم.
في دكان مُلئت جدرانها بالرفوف وقطع الجبنة وعلب اللبن والحليب، جلس أبو ياسين خلف طاولة صغيرة، يعبث بأزرار الميزان الإلكتروني، وقال: “أحسست برغبة في استرجاع الماضي والعودة إلى العمل”.
أوضح أبو ياسين، 59 عامًا، أنه عمل “لسنين معلم نجارة (عربي)، لكن لا أستطيع العودة إلى تلك المهنة حاليًا، فهي بحاجة لمعدات كثيرة تكلف أموالًا طائلة”.
افتتح أبو ياسين دكانًا صغيرة في البلدة التي يسكنها في ريف إدلب، لئلا يجلس في البيت “مثل النساء”. على حدّ تعبيره.
ويعيش أبو ياسين وحيدًا مع زوجات أبنائه. فقدَ ولديه في قصف شنه طيران النظام على سوق في بلدة سرمين من ريف إدلب، حيث يقيم أبو ياسين حاليًا.
وعلى الرغم من الحزن في حديث أبو ياسين، لكن ثمة أمل: “سأقضي بعض الوقت أتسلى في هذه الدكان … ريثما نعود إلى داريا”.