سورية الآن

الهروب من استحقاق التسوية السياسية السورية

يروي نازحون عراقيون القصص المرعبة عما تعرضت له مدنهم، وكيف تم تدمير حواضر وإزالة عمران مضى عليه قرون. يروون كيف كان يتم اقتحام البيوت، والتنكيل بالأسرى وخطف الشبان وقتلهم بدم بارد، وكيف كان يتم التعدي على الأعراض، بحيث لم يبق أمام كثيرين إلاّ الفرار من جحافل هولاكو العصر الحديث. يروون حكايات مؤلمة عن شظف العيش بعد الفرار من الداخل إلى الداخل، وعن صعوبة المسالك ومرارة التهجير إلى الخارج، وبؤس المنافي… من قبل تنظيم داعش، كما يشيرون إلى الأدوار المقيتة للميليشيات الطائفية، التي أنبتها الحرس الثوري للترويع والتهجير، وتعميم الخراب والفوضى، وهما الماركة المسجلة لاتساع النفوذ الإيراني.

حكايات كل اللاجئين السوريين، من القُصير إلى القلمون الغربي والغوطتين كلتيهما، وسواها متشابهة. الميليشيات الإرهابية، الأفغانية والعراقية واللبنانية، ووحدات الحرس الثوري وشبيحة النظام الديكتاتوري، دمرت البلدات والقرى وأحالتها أثرا بعد عين، واقتلعت الأهالي وهجرتهم، وبعد ذلك تم تعفيش ما بقي في البيوت، والهاجس خلف هذا الإجرام فرض تغيير ديموغرافي، عبر طرد كثيرين من أبناء سورية، أبناء الأغلبية السورية، لإحلال شذاذ آفاق مكانهم، بوهم أن هذه العملية الاستئصالية توفر حماية للديكتاتورية ورعاتها، والكل يتذكر زيارة رأس النظام السوري لـ«داريا» بعد اقتلاع سكانها، وحديثه عن ضرورة تغيير النسيج الديموغرافي، والكل كان يدرك أن «داريا» خاصة، استحقت لقب درة الثورة السورية، للنموذج الذي قدمته طيلة أكثر من أربع سنوات فكان مصيرها التقتيل، بعدما تُركت ملعبا للبوم.

ويأتيك في جنيف ممثل النظام الأسدي مشترطا أولوية البحث بالإرهاب، وطبعا متسلحا في موقفه بدعم الرعاة: طهران وموسكو!! وهنا الفارق كبير وجوهري، بين أن تكون الأولوية لمحاربة الإرهاب كما يريد النظام السوري وحماته، والذهاب إلى الأصل، إلى البحث في الأزمة السياسية كما شدد القرار الدولي 2254، والأزمة في جوهرها هي في كيفية إتمام الانتقال السياسي. بالتأكيد إن الأزمة السورية التي تفجرت سلميا، رفعت مطالب أولية تتجلى في العيش بحرية وكرامة، لكنها قادت إلى أبشع حرب من نوعها بعد استعجال الإرهابيين الحقيقيين عسكرتها.

في العام الأول من الثورة أخرجت الانتفاضة المدنية الحكم الديكتاتوري من نحو 600 في المائة من المناطق السورية، فجرى إطلاق الوحوش، إرهابيي سجن صيدنايا وأنصارهم، وجرى استجرار الميليشيات الطائفية لاغتيال الثورة والسوريين، وتم تفريخ ميليشيات الشبيحة، وأعمالهم كانت تدل عليهم في سورية كما في العراق، فهم من منبت واحد، والقتل راح يجر القتل، والجريمة تتناسل، ووحده المواطن الذي احتضن الثورة وحمل شعاراتها، كان ينزف متروكا حتى الموت. وكان الهدف الأبرز وضع المجتمع الخارجي أمام مفاضلة وحيدة الجانب إمّا بشار ونظامه وإمّا الإرهاب!! في حين أن الأزمة في سورية سابقة لبروز الإرهاب الذي لم يظهر من عدم.

في «جنيف – 44»، رغم أن روسيا بدت مايسترو مطلقا يمسك كل الخيوط، في غياب أي دور مؤثر أميركي، أوروبي، أو عربي، ارتدّت البذاءة على ممثل القاتل الأبرز، وعاد يُسمع صوت الجيش السوري الحر، والمعارضة رغم أنها معارضات تعاني كثيرا من الخلافات والصعوبات ومع ذلك تعكس تنوعا سورية عميقا، نجحت بفرض أول اختراق جدي على النظام الأسدي، وهو وضع الأزمة السياسية على طاولة البحث دون إبطاء، لأن الأزمة سابقة لظهور «داعش» و«النصرة» وكل أمراء الموت والسلاح وشبيحة القرى والمعابر، والعلاج يكون بالذهاب إلى الأساس السياسي، لأن كل ما دونه سيحفز مجددا على جلب مزيد من الإرهابيين، الذين لن يمنع وصولهم إقفال حدود، وتستمر أبشع مقتلة، تتوسلها زمر الغزو الطائفي لمزيد من تغلغل الاحتلال الإيراني، وتكريس الشرق العربي منطقة عدم استقرار.

في «جنيف – 44»، أحبط المعارض، المواجه باللحم الحي، آخر فصول محاولات النظام الأسدي الهروب من استحقاق التسوية السياسية، بتأكيد استحالة الهرب من البنود المحكمة التي وضعها الموفد الدولي، لأنه وإن كانت الخريطة السورية متغيرة وغير ثابتة، والغياب الأميركي عنصر سلبي كبير ومثله العربي، فإن الأزمة السورية لا تختصر بعنصر واحد، وما حضور سورية الناس، إلاّ معبرًا إلزاميا للفرز بين من يريد التسوية السياسية، ولو جائرة، وما زالت هلامية، وبين من يرفضونها اعتقادا منهم أنه ما زال بالإمكان إعادة سورية إلى ما قبل عام 2011، وتوزيعها جوائز ترضية لأعداء الشعب السوري.

(*) كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

إغلاق