أثار انتخاب، أو “تعيين”، السيد رياض درار لمنصب الرئاسة في “مجلس سورية الديمقراطية”، في أثناء مؤتمره الثاني المنعقد بتاريخ 25 شباط/ فبراير 2017، في بلدة المالكية السورية، ردات فعل عديدة ومتباينة في الوسط الثقافي والسياسي السوري، فمنهم من استنكر، ومنهم من بارك.
من حق الرجل تحديد خياراته، وليس من حق أحد أن يملي عليه خيارًا سياسيًا أو فكريًا بعينه. إلّا أنه -في الوقت ذاته- لا يمكننا الوقوف عند التخوم الشخصية لحدث كهذا، بعدّ السيد درار واحدًا من المشتغلين في الشأن الثقافي، وباحثًا في قضايا الإصلاح الديني؛ فضلًا عن نشاطه السياسي.
لعلّ المجال الأبرز الذي اشتغل فيه رياض درار، وأراد أن يطلّ منه على الناس، هو قضايا التجديد الديني، وبخاصة المسائل التي تتعلق بمفهوم الدولة، وشكل الحكم، إضافة إلى قضايا المرأة. وقد استمعت إلى إحدى محاضراته في مدينة غازي عينتاب التركية عام 2015، وكان موضوعها البحث في مفهوم العلمانية، وفهمت – آنذاك – أن الرجل يسعى إلى تبديد سوء الفهم الحاصل لدى كثيرين تجاه هذا المفهوم، ويسعى إلى تعزيز وجهة نظره التي لا ترى تعارضًا بين الإسلام والعلمانية، وله محاضرات وأبحاث مماثلة حول مفهوم الديمقراطية، ومسائل أخرى.
هذا يعني أن الرجل صاحب مشروع تنويري، يهدف من خلال جهده الفكري إلى تجاوز المنظومة الفقهية الإسلامية التقليدية، والبناء على فهم إسلامي عصري، لا يتنافى أو يتصادم مع قيم الحداثة ومنظومة الحقوق الإنسانية الوضعية التي يؤمن بها [بعض] العالم المعاصر ويدافع عنها. ولكن في موازاة هذا الميدان الثقافي النظري للرجل، ثمة ميدان سياسي آخر انحاز إليه السيد درار، وربما وجده المجال الرحب لترجمة قناعاته الفكرية والثقافية، وهو مشروع “مجلس سورية الديمقراطية” الذي يُعدّ التجسيد الفعلي لتصورات ورؤى حزب الاتحاد الديمقراطي(pyd)، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني(bkk). ومعلوم أن هذا الحزب احتلّ عدة مدن سورية (القامشلي، الحسكة، منبج – تل أبيض- وكثير من البلدات والقرى السورية) ونكّل بعدد من أهلها، وهجّر المواطنين من قراهم وبلداتهم، وسطا على الممتلكات، فضلًا عن مجافاته لمشروع الثورة السورية، ووقوفه مع قوات نظام الأسد في أكثر من موقف.
واقع الحال، أن رياض درار لم يكن المثقف السوري الوحيد الذي يلاحظ الناس تباعدًا بين نشاطه الثقافي وممارساته العملية، بل هناك كثير (ساسة ومشايخ ومفكرون وشعراء) ممن حملوا معول الثقافة، وحفروا في الأرض السورية، ولكن زرعهم لم يثمر، إلا في بساتين الطواغيت والقتلة.
نحن حيال شريحة تمارس نشاطًا ذهنيًا ذا طابع معرفي، ولكن بعيدًا عن الحيّز الاجتماعي، وكذلك في حال فكاك تام من العرى التي تربط الثقافة بجذورها الإنسانية والأخلاقية، فضلًا عن ابتعاد المادة الثقافية -لدى هذه الشريحة- من السياق العام لهموم الناس ومعاناتهم، فلا تجد ضمن نتاجاتهم نصوصًا أو موادَّ تتحدث عن قضايا الاضطهاد أو الاستبداد أو قضايا المعتقلين، أو إشكاليات الفساد الاقتصادي والسياسي أو قضايا حقوق الإنسان، أو البطالة أو الإرهاب الذي تمارسه الدولة على المجتمع، إنّ أيًّا من هذه الأمور لم تكن تشغلهم طوال ملازمتهم الحثيثة لنظام الحكم، وكذلك طوال ممارستهم وظائفهم الرفيعة في مؤسسات السلطة، وإن أنتَ وجدتَ من يقارب منهم بعض هذه القضايا، فغالبًا ما تكون مقاربته غائمة وبعبارات عامة، بل وسرعان ما تراه يلتف في آخر حديثه إلى استثناء سورية (الصمود والممانعة) مما يتحدث عنه، ولكي يؤكد ولاءه السلطوي وحسن نيته، تراه يختم حديثه بمديح مجاني لقيادته الحكيمة، هذا ما كان يفعله (علي عقلة عرسان) عندما يكتب عن الديمقراطية، وكذلك يفعل معظم من كانوا يرأسون تحرير الصحف السورية، وكذلك مديرو الأقسام في تلك الصحف.
ووفقًا لذلك؛ يمكن لنا أن نفسّر سلوك شعراء كبار، عملوا منذ عقود على ترسيخ الحداثة والقيم الإنسانية، ولكنهم انحازوا مصطفّين إلى جانب ممتهني القتل والإجرام، وكذلك نفهم موقف كثير من المشايخ والمنوّرين الذين برروا للطاغية حافظ الأسد استبداده وظلمه للسوريين ثلاثين سنة، ثم تابعوا مناصرتهم للوارث الابن، ولم يفارقوه إلا عندما أدركوا أن قاربه بدأ بالترنّح، وفي ليلة غاب عنها القمر، باتوا قادة لثورة شعب، هم أوّل من أسهم في إذلاله وتأييد أسباب مأساته.
تحتاج الحالة أو الظاهرة إلى إعادة النظر في طبيعة فهمنا لفاعلية الثقافة، ومدى استجابتها للهم الإنساني، وانبثاقها من السياق الاجتماعي للمواطن ومفردات معاناته؛ ما يجعلنا نتساءل دائمًا:
هل الثقافة نشاطٌ ذهني، يمكن أن يتحول في أفضل الحالات إلى موقف مغلّف ببراغماتية خادعة، أم إنها نشاط معرفي محكوم ببعده الأخلاقي وسلوك غير مفارق لغاياته الإنسانية؟
لقد برر كثير من مثقفي السلطة سلوكهم المجافي لكلامهم بقولهم: إن محاباة الحاكم ومسايرته، ربما تتيح فرصة إصلاحه والتأثير فيه أكثر من الوقوف في وجهه وإظهار العداء له (هذا ما كان يقوله الشيخ البوطي في بعض مجالسه الخاصة)، وكذلك السيد رياض درار يمضي متوهمًا أنه سيجعل-من خلال وصوله إلى رئاسة مجلس قوات سورية الديمقراطية- حزب الاتحاد الديمقراطي pyd، جزءًا من المشروع الوطني السوري.